في مدينة إمبريال أقصى جنوب شرقي كاليفورنيا، جنوبي الولايات المتحدة، لا مفرّ من الهواء المؤذي. الضباب الذي يحوم فوق المدينة هو بمقدار تردي الأوضاع المناخية في المنطقة. هذا الضباب يتشكل من مبيدات حشرات وبخار سام وانبعاثات من مصانع، إضافة إلى غبار غريب يتصاعد من "بحر سالتون"، وهو فعلياً بحيرة مالحة مغلقة وسط كاليفورنيا تحوّلت بعد نحو قرن من تشكيلها بواسطة قناة مائية إلى مكان مليء بمواد سامة، منها الزرنيخ والسيلينيوم، وهو عنصر كيميائي يتصاعد بخاره إلى الغلاف الجوي متسبباً في أزمة صحية كارثية.
ويورد تقرير نشرته صحيفة "ذي غارديان" البريطانية، عن تأثيرات هذه الكارثة المناخية على حياة سكان كاليفورنيا، أنّ معدل الأطفال المصابين بالربو الذي يخضعون للاستشفاء يناهز ضعف متوسط الحالات في عموم الولايات المتحدة الأميركية. وتظهر دراسات أنّ واحداً من كلّ خمسة أطفال يعاني من مشكلات في التنفس، علماً أنّ مدينة إمبريال يسكنها عمال ومزارعون معظمهم من أصول مكسيكية، وتعتبر إحدى أفقر مقاطعات كاليفورنيا.
صعوبات في التنفس
تروي أمور غارسيا (31 عاماً)، التي انتقلت إلى المنطقة قبل أربعة أعوام، أنّ العيش في هذه المنطقة تحوّل إلى مكان للعقاب. وتشير إلى أنّ "أحداً لم يحذرنا من أنها ستكون سيئة جداً على صحتنا. ففي منتصف الصيف الرطب، تبلغ درجات الحرارة 49 درجة مئوية، وتتصاعد رمال من الصحراء ويحملها الهواء الساخن لتصبح كتل أوساخ تعلق في الشعر، وتزحف تحت الأظافر، في حين تنبعث رائحة كبريت من بحر سالتون، فنشعر بصعوبة بالغة في التنفس". وتخشى غارسيا عدم إمكان العيش نهائياً في المنطقة خلال السنوات المقبلة، خصوصاً أنّ موجات الجفاف، التي ضربت المنطقة في الفترات الماضية، والطلب المتزايد على المياه في جنوب كاليفورنيا، تسرّع التدهور في "بحر سالتون".
بيئة ضارّة
يتوقع باحثون أن يتقلص حجم البحيرة إلى ربع حجمها الحالي بحلول عام 2030. وتحذر عالمة الأوبئة البيئية في جامعة "جنوب كاليفورنيا" شهرية فرزان من تأثيرات تدهور المناخ على المنطقة، معتبرة أنّ الغبار المحيط بـ"بحر سالتون" قد يزيد مشكلات التنفس والحساسية والربو، وسيتسبب في أمراض للأطفال.
من جهتها، تحتفظ ناومي فاسكيز، وهي امرأة مسنّة تسكن منطقة إمبريال، بأجهزة استنشاق في مطبخ منزلها والحمام، وأيضاً قرب السرير في غرفة نومها، وكذلك بحبوب "مونتيلوكاست" التي تتناولها لمعالجة مشكلات التنفس. وتؤكد أنّ هذه الاحتياطات الطبية ليست لها وحدها، بل لكلّ أفراد أسرتها، وبينهم حفيدتها التي تعاني من الربو وتحتاج إلى أدوية كثيرة ومعدات.
وتشكل أمراض الربو والحساسية جزءاً من الحياة في إمبريال. وقبل سنوات، استيقظت فاسكيز ليلاً بعدما كادت تختنق من الغازات السامة في الأجواء، في وقت لم تكن تملك أي جهاز تنفس، وتقول: "كانت بشرتي حمراء، لم أستطع التنفس، ولولا أنّ زوجي نام في جواري في تلك الليلة، لأصبت بحالة اختناق".
منتجع للمشاهير والرؤساء
جرى تشكيل "بحر سالتون" عام 1905 بعد جرّ مياه من نهر كولورادو لملء حوض قديم في الصحراء، ما خلق حينها واحة لطيور الشاطئ المهاجرة. وبحلول منتصف القرن العشرين، جذب الموقع مشاهير وشخصيات بارزة، وزرعت أشجار نخيل في محيط البحيرة، وشيّدت منتجعات فاخرة، ما حوّل المنطقة إلى وجهة مهمة اعتاد الرئيس دوايت أيزنهاور أن يزورها سنوياً.
أيضاً، استقطبت المنطقة مئات من عائلات الطبقة الوسطى، مثل عائلة ستيف جونسون التي اشترت عقاراً صغيراَ في محيط البحيرة، حيث اعتاد جونسون طفلاً أن يصطاد ويسبح خلال العطلة الصيفية. ويتذكر جونسون (59 عاماً) أنّ منطقة البحيرة كانت ملاذاً للأغنياء والمشاهير، وكانت تعجّ بالزائرين خلال فصل الصيف، بينما يتحسر اليوم على عدم ممارسته السباحة في البحيرة رغم أنّه يحن إلى ذلك، موضحاً أنّ "المياه مليئة بمبيدات الحشرات ومادة النترات، التي تمتزج مع رواسب الملح في قاع البحيرة لتزيد درجة ملوحتها التي قلّصت حجمها بحلول التسعينيات من القرن العشرين، ما قتل أعداداً كبيرة من الأسماك وأدى إلى تكاثر طحالب ضارّة. وخلال العقود القليلة الماضية، قضت عشرات آلاف الطيور المهاجرة حول البحيرة من الجوع أو التسمّم".
وتقول ميريام خواريز (37 عاماً) التي عاشت معظم حياتها قرب البحيرة: "غريب أنّ والدي اعتاد اصطحابي مع إخوتي للسباحة والصيد أيضاً في هذه البحيرة، أما أطفالي فلا يعرفون إلّا كونها مساحة سامّة تنتشر فيها عظام السمك والغبار الملوّث".
صدمة كورونا
وكان لافتاً أنّ مقاطعة إمبريال اعتبرت إحدى المناطق الأكثر تضرراً بوباء كورونا في ولاية كاليفورنيا، إذ زاد ارتفاع معدلات مشاكل الجهاز التنفسي لدى السكان عدد إصاباتهم خلال الجائحة. وهم حاولوا قدر المستطاع البقاء داخل بيوتهم ووضع أقنعة كي لا يصابوا بالفيروس، لكنّ ذلك لم يمنع ارتفاع عدد الإصابات وحدّتها.
ويوضح خبراء صحيون أنّ 5 من بين كلّ 10 أطفال في إمبريال خضعوا لعلاج بأجهزة تنفس، مشيرين إلى أنّ الأطفال استطاعوا بالكاد الخروج من منازلهم من دون أن يصابوا بأمراض تنفس، علماً أنّهم معرضون أيضاً للإصابة بغازات سامة. وتروي مسؤولة في دار حضانة أنّ "الأطفال يأتون حاملين معهم، إلى جانب حقائب الطعام، أخرى مليئة بأجهزة تنشق الهواء وكريمات وحبوب حساسية وبخاخات أنف تحتوي على محلول ملحي للأنف المسدود".
وتحاول شركات، بالتعاون مع مسؤولين محليين، إيجاد حلول للمشكلات الناتجة عن تلوث البحيرة، من بينها تنفيذ فكرة ضخ مياه من المحيط الهادئ وتحليته، علماً أنّ لجنة الطاقة في ولاية كاليفورنيا باتت أكثر اهتماماً في الأعوام الأخيرة باحتمالات الاستثمار في استخراج مادة الليثيوم من المنطقة، حيث أنفقت شركات ملايين الدولارات لاستكشاف تعدين هذه المادة المستخدمة في صنع البطاريات التي تشغل الهواتف الخليوية والسيارات الكهربائية. وتتوقع شركة "باكشاير هاثاواي إينرجي" أن تنتج منطقة "بحر سالتون" ثلث كمية الليثيوم في العالم، إذا تحوّلت السيارات الكهربائية الصغيرة الحجم ركيزة إنتاج الشركات المصنّعة، ما سينشط اقتصاد المنطقة المتعثر، ويعزز خطط البلاد الطموحة في إزالة الكربون.
يقول روبرت شيتلر، المتحدث باسم إدارة المنطقة: "نحن محبطون من المشكلة البيئية في بحر سالتون، لكنّنا نحاول معالجتها عبر مشاريع باشرنا تنفيذها في السنوات الأخيرة، بينها زرع الغطاء النباتي من أجل كبح التربة، وحفر التلال في وحول جافة من أجل كسر الرياح".
وأخيراً، أطلقت الولاية مشروعاً قيمته 206 ملايين دولار لاستعادة أماكن الأسماك والطيور عند الحافة الجنوبية الغربية لـ"بحر سالتون". لكنّ مساعد وزيرة الخارجية لسياسة سالتون في وكالة الموارد الطبيعية بكاليفورنيا، أرتورو ديلغادو، يرى أنّه "يصعب تحقيق هذا الهدف، رغم أنّ تقدماً يحصل".
في المقابل، تشير نانسي ديل كاستيلو (42 عاماً)، التي تعيش مع زوجها وطفليها في مدينة إمبريال، إلى أنّها لا تستطيع الوثوق بهذه التطمينات، لذا تحاول الادّخار منذ سنوات للانتقال إلى حي مختلف ذي هواء أفضل. وتقول: "ما زال هناك تلوث من مبيدات الحشرات وبخار أجهزة الديزل في ريفرسايد وكوتشيلا إلى الشمال، رغم أنّها ليست سيئة بدرجة كبيرة".
الوقت ينفد
ويبدي العديد من السكان المحليين قلقهم من أنّ الوقت ينفد. ويقول أستاذ الصحة العامة في جامعة "لوما ليندا" رايان سينكلير، الذي يرسم خرائط لتدهور البحار: "مع مزيد من تغيّر المناخ والتصحر والجفاف، سيستمر التدهور البيئي والصحي. والجفاف الحالي غير المسبوق الذي يجتاح غرب الولايات المتحدة زاد الضغط على نهر كولورادو المتقلص، الذي يغذي ثلاثين مزرعة ومدينة في أنحاء المنطقة، ما يزيد تعقيدات الحسابات والسياسات المتعلقة بكيفية ومكان إرسال مياهه المتضائلة".
ويقدر باحثون أنّ ملوحة "بحر سالتون" قد تزداد عشر مرات بحلول عام 2045، ما يجعله غير صالح لأيّ نشاط، مع احتمال أن يعرّض انحسار شواطئه المجتمعات المجاورة لكمية مائة طن من الغبار يومياً.