عندما ينتهي الوباء، كيف يجب أن نتعامل مع ذكريات ما حدث؟ سؤال طرحه الكاتب الصحافي على شبكة "بي بي سي" البريطانية إد بريدو، في محاولة منه لاستقراء مستقبل ما بعد الوباء.
ويقول بريدو: "أنت تعيش وسط أول حدث يشكل صدمة جماعية عالمية منذ عدة عقود، ويمكن القول إن هذه الصدمة هي الأولى من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية، ومن المحتمل أن تكون الأولى من نوعها في حياة الإنسان المعاصر، فقد توفي حتى الآن ما يقارب مليوني شخص، ويستمر العدد في الارتفاع بعشرات الآلاف كل يوم".
ويتابع بريدو: "بالإضافة إلى الموت، تبدلت أيضاً الكثير من المفاهيم، بدءاً من المجتمع والاقتصاد العالمي وشبكات العلاقات الدولية، وصولاً إلى الصحة العقلية الفردية، لم يسلم شيء من العاصفة الفيروسية"، مضيفاً: "بعد انتهاء الوباء، ستظل آثار الصدمة الجماعية التي أحدثها الفيروس باقية عبر المجتمعات لسنوات، فكيف يمكننا أن نفهم هذه التداعيات العقلية؟".
وبحسب الطبيب النفسي وممثل مجلس الصدمات في المملكة المتحدة، ديفيد ستريكي، يمكن فهم الصدمة على أنها فجوة بين "أنظمة التوجيه" الخاصة بالإنسان والحدث المسبب للصدمة. بمعنى أنه يمكن الطرد من العمل أن يكون مؤلماً، لكن الصدمة تكون من خلال عدم احترام الذات مستقبلاً والخجل بسبب فقدان العمل. وهكذا هو الأمر بالنسبة إلى جائحة كورونا، التي تشكلت بشكل سريع في العالم وسببت خسائر بشرية ومادية، ستكون لها آثار ضخمة على البشرية، بعد انتهاء الوباء سيشعر الجميع بحجم الخسائر، وسيفقدون الكثير من القيم الداخلية.
ويضيف: "لا تتناسب الصدمة بالضرورة مع شدة الحدث، سيعالج بعض الأشخاص ما حدث بشكل أفضل من غيرهم، لكن مجرد التفكير في أن الصدمة تشمل الجميع، سيكون لها تأثير في المجتمعات".
وبحسب ستريكي، تحدث الصدمة الجماعية عندما يصيب ذات الحدث، أو سلسلة الأحداث، عدداً كبيراً من الأشخاص بصدمة خلال فترة زمنية معينة مشتركة، ويعد فيروس كورونا، من نواحٍ كثيرة، حالة نموذجية.
وبحسب تقرير "بي بي سي"، من الواضح أن الوباء أحدث فجيعة على نطاق واسع، وهي صدمة الموت. بالنسبة إلى الأحباء، فإن التدهور السريع الذي لوحظ في بعض حالات الفيروس، عندما ينتقل المرضى من أعراض خفيفة إلى الموت في أيام تجعل الاستعداد العاطفي صعباً، كذلك إن زيارات المستشفى المقيدة والإغلاق والمحادثات مرهقة للجميع، ومن هنا يمكن أن يسبب التذكير المستمر بالفيروس تحفيز الذكريات السامة ويعيد الصدمة.
تقول ماغدالينا زولكوس، أستاذة الفلسفة في جامعة جوته في فرانكفورت بألمانيا: "يعد الموت أصعب صدمة جماعية، سيعاني منها الأحياء بعد الفيروس". وتصف عدم القدرة الجماعية على التعامل في الوقت الحاضر مع إجراءات الموت، بأنها "شكل آخر من الصدمات النفسية، التي من شأنها أن تعيد ذكرى موت الأحبة في أوقات لاحقة، خاصة عندما ينتهي كل شيء".
ذكريات مؤلمة
في أجنحة المستشفيات، يواجه الممرضون والأطباء احتمالات صدمة كبيرة، ووفقاً لإحدى الدراسات الاستقصائية، يواجه حوالى 20% من العاملين في مجال الرعاية الصحية آثاراً تسمى "آثار ما بعد الصدمة"، حيث يواجه العمال، المحاطون يومياً بالموت والقيود المفروضة على الموارد والصور الحية للأنابيب وآلات دعم الحياة، عنصراً إضافياً من الصدمات من خلال "الضرر المعنوي".
ويقول متين باس أوغلو، مؤسس كلية دراسات الصدمات في كينجز كوليدج لندن، إنّ "عدم القدرة على التنفس هو أكثر الأحداث صدمةً التي لا يمكن تخيلها، لأنه ببساطة لا يوجد شيء يمكن القيام به حيال ذلك، وبمجرد أن يفقد الإنسان أنفاسه، فهو مثال رئيسي على العجز"، هذه صفة تدفع في كثير من الأحيان بضغط شديد إلى عالم الصدمة.
ووفق إيد بريدو، ما يجعل صدمة فيروس كورونا "هائلة" حقاً هو تأثيرها في جميع السكان، بمن فيهم أولئك الذين لن يصابوا أبداً بالفيروس، أو لا يعرفون الأشخاص المصابين به. بالنسبة إلى الكثيرين، إن احتمال الإصابة بمرض غير مرئي قاتل، مهما كان، أمر مخيف في جوهره، ويدعو إلى ما يسميه الباحثون "الخوف الداخلي".
لاحظ جيفري ألكسندر، عالم الاجتماع في جامعة ييل، تأثيرات فيروس كورونا بطرق خفية ومدمرة، ويقول: "إن الأنسجة الاجتماعية في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يستهلكها الشعور بالفوضى، والخروج عن السيطرة، كما لو أن البلاد تنهار بسبب الوباء".
ويشير ألكساندر إلى أن الصدمة الجماعية للولايات المتحدة كانت بمثابة ضربة مزدوجة، أدت احتجاجات المواطنين من أصحاب البشرة السوداء في مايو/ أيار الماضي، إلى جانب المعرفة المتزايدة بالتفاوتات العرقية الصارخة في الوفيات الفيروسية، إلى تقاطع فيروس كورونا مع صدمات تاريخية طويلة الأمد حول العرق.
وتشير الدلائل إلى أن الملونين والأميركيين السود على وجه الخصوص يواجهون صدمات بين الأجيال بسبب العنصرية والتمييز، أثارت هذه الأحداث مخاوف من حدوث صدمة جماعية متتالية مع تداعيات أكثر ضرراً.
مشكلة النسيان
ويرى خبراء الصحة النفسية أن الصدمات الجماعية لا تتعلق فقط بما يعيشه الأشخاص في المستقبل، بل بعدم قدرتهم على النسيان، ويرى الخبراء أن المخاطر الاجتماعية الدائمة للصدمات الجماعية تكمن في عدم النسيان، عندما لا تُعالَج.
ففي لبنان، بحسب التقرير، يُنظر إلى المجتمعات المتضررة من الحرب على أنها تحتل "صدمة متتابعة" لا تزال مؤثرة حتى اليوم، يُطلق عليها اسم دورات من "الاستثارة المفرطة" و"التخدير"، كالتي أصابت مجموعات اللاجئين في سورية وفلسطين، حيث يتعرض الأفراد للتذكير بصدمة غير معالجة، وقد يتصرفون في نوبات من العدوانية والقلق أو "بتجنب أو لامبالاة أو سلبية"، ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى أن صدمة ما بعد الحرب لا تزال موجودة حتى الآن.