في السنوات الأخيرة، ذاع صيت منظمة "أطباء بلا حدود"، خصوصاً عبر نداءاتها المتتالية لمنع حصول كوارث غرق قوارب للاجئين في البحر الأبيض المتوسط. لكن عملها ليس حديثاً ويعود إلى نصف قرن منذ تأسيسها في نهاية عام 1971.
وفي تسعينيات القرن العشرين، شهد العالم جهود "أطباء بلا حدود" لاحتواء تداعيات المجازر في رواندا. وقد توسعت تدخلاتها الإنسانية في القارة الأفريقية تحديداً. أما عملياتها الميدانية الأولى فرافقت الزلزال المدمر الذي ضرب ماناغوا، عاصمة نيكاراغوا، في 23 ديسمبر/ كانون الأول 1972.
تأسست "أطباء بلا حدود" بمبادرة أطلقها أطباء وصحافيون في 20 ديسمبر/ كانون الأول 1971، واتخذت مدينة جنيف السويسرية مقراً، وضمت خبراء في عمل المنظمات غير الحكومية، وبينهم متطوعون سابقون في الصليب الأحمر الدولي، وقد رفعت منذ تأسيسها شعار "تقديم يد العون الطبي في حالات الكوارث الطبيعية أو المآسي التي يصنعها البشر لجميع المحتاجين بغض النظر عن أصلهم وانتمائهم السياسي والديني".
ومنذ بداية عملها التطوعي العالمي، وضعت "أطباء بلا حدود" نصب عينيها هدف الوقاية من الأوبئة، خصوصاً في قارة أفريقيا، التي تعاني أنظمتها الطبية من مشاكل عدة على صعيد الموازنات والمنشآت والتجهيزات والكوادر الطبية. وتعمل المنظمة في 60 بلداً اليوم، وقدمت منذ تأسيسها مساعدات إلى ملايين المحتاجين في مجتمعات شهدت أزمات وصراعات مسلحة، كما حصل في سورية وليبيا وجنوب السودان ومالي ونيجيريا وغيرها.
لا سكوت عن الانتهاكات
ولم تكتفِ المنظمة بدورها التطوعي خلال عملها في ميادين شهدت ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات إنسانية، إذ عملت على إظهار هذه الانتهاكات إلى العلن والمطالبة بالتدخل لوقفها، وبينها الجرائم التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في حق الفلسطينيين خلال الانتفاضتين الأولى عام 1987 والثانية عام 2000، حين تصادمت المنظمة مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي اتهمت أطباء نروجيين وممرضين سويديين يعملون معها بـ"معاداة السامية" نتيجة إدلائهم بشهادات عن جرائم ارتكبتها قوات الاحتلال.
وخلال سنوات اللجوء والهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط، أنقذت المنظمة أرواح كُثر، وأرسلت إشارات إلى قوات خفر السواحل لانتشال قوارب أوشكت على الغرق. لكن جهودها واجهت عراقيل كبيرة منذ أن انتهجت أوروبا سياسات متشددة ضد المهاجرين السريين، وبينها حظر حكومة اليمين المتشدد في إيطاليا عام 2018 إبحار سفن الإنقاذ غير الحكومية، وتجريم عملها، لكن ذلك لم يوقف بالكامل جهود المنظمة في البحر المتوسط.
أهم العمليات
في ديسمبر/ كانون الأول 1972، نفذ متطوعو "أطباء بلا حدود" مهمتهم الأولى في ماناغوا، عاصمة نيكاراغوا، التي ضربها زلزال مدمر خلّف 11 ألف قتيل و20 ألف جريح وأكثر من 300 ألف مشرد. ومنذ ذلك التاريخ ذاع صيت المنظمة وزاد انتشارها في المناطق الساخنة، وصولاً إلى احتضانها اليوم حوالى 65 ألف طبيب وممرض ينتشرون في مجتمعات مختلفة. وقد زاد عدد المنضمين إليها بعدما نالت جائزة نوبل للسلام عام 1999، وتعزز موقعها عبر مواقفها التي أكدت فيها أنها لا تخشى من قول الحقيقة، وبينها مطالبتها الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين بوقف العنف الذي ارتكبته قوات بلاده ضد المدنيين في الشيشان بين عامي 1994 و1996، ورفضها الحصار الدولي الذي فرض على العراق بين عامي 1991 و2003.
أيضاً، لم يقتصر عمل "أطباء بلا حدود" على مناطق الحروب والنزاعات المسلحة التي تترك الضحايا المدنيين بلا اهتمام، بل سارعت إلى تقديم العون إلى المحتاجين في وقت المجاعات، وأهمها في إثيوبيا التي شهدت عام 1984 موت حوالى 50 شخصاً يومياً، قبل أن يدفع تدخل المنظمة حكومة البلاد إلى إطلاق نداء عالمي لمواجهة الكارثة. وساهم ذلك في نقل آلاف الإثيوبيين من مناطق الجوع، وتوفير مساعدات غذائية وطبية عالمية لهم، وجعل الأوروبيين يطلقون حملات تبرع كبيرة لإنقاذ إثيوبيا من مصير أسود. ونسقت الأمم المتحدة مع المنظمة عمليات إلقاء مساعدات غذائية من الجو.
واللافت أن عملها الإنساني في إثيوبيا في تلك الفترة لم يمنع دخول "أطباء بلا حدود" في صدام مع سلطات أديس أبابا التي لم يرقَ لها أن تظهر بموقف عاجز في البداية، فطردت طبيبين متطوعين في صفوف المنظمة بحجة أنهما أدليا بشهادات غير مناسبة لوسائل إعلام عالمية.
وفي ربيع عام 1994، قدمت "أطباء بلا حدود" كل ما أمكن لمساعدة ضحايا الجرائم البشعة ضد الإنسانية التي شهدتها رواندا خلال الحرب التي اندلعت بين قبيلتي التوتسي والهوتو، وخلّفت 800 ألف قتيل على الأقل، غالبيتهم من التوتسي، خلال ثلاثة أشهر فقط، ووسعت جهودها إلى دولة الكونغو الديمقراطية (زائير سابقاً)، التي فرّ إليها نحو مليون رواندي. ولم تكن أهوال الحرب المآسي الوحيدة التي تعامل معها متطوعو المنظمة، إذ خطف مسلحو الهوتو بعضهم، وانتشر وباء الكوليرا بين لاجئي رواندا، ما دفع المنظمة إلى إطلاق نداء عالمي مهّد لتدخل الأمم المتحدة في الصراع.
على أبواب القارة الأوروبية
وخلال أزمة اللجوء والهجرة على أبواب القارة الأوروبية، والتي ترافقت مع مآسٍ كبيرة منذ عام 2013، استخدمت المنظمة خبرتها في التعامل منذ عام 2002 مع محاولة آلاف اللاجئين الأكراد والبنغال والسودانيين بلوغ الجزر اليونانية، لمساعدة آلاف الناجين من الغرق خلال تنفيذ رحلات القوارب في البحر المتوسط، والتي بلغت ذروتها بين عامي 2013 و2015.
وتوسع عمل "أطباء بلا حدود" في البحر الأبيض المتوسط حتى أصبحت طواقمها جزءاً من سفن الإنقاذ غير الحكومية، ما جعلها تواجه مرات صدامات مع دول أوروبية، واتهامات من سياسيين ينتمون إلى اليمين المتشدد بممارسة "تهريب البشر".
وفي عام 2010، فقدت "أطباء بلا حدود" 12 طبيباً بانهيار سقف مستشفى كانوا موجودين فيه خلال عملهم لمساعدة منكوبين بالزلزال وسط انهيار شامل للنظام الطبي في البلد الكاريبي. وخلال 10 أشهر، عالج أطباء المنظمة حوالى 350 ألف جريح، وأجروا عمليات توليد لحوالى 15 ألف امرأة، و16 ألف تدخل جراحي.
ومنذ أن ظهرت جائحة كورونا في ربيع عام 2020، وسعت "أطباء بلا حدود"، بعدما ركزت عملياتها خلال نصف قرن في دول العالم الثالث، وجودها إلى قارة أوروبا، حيث ساعدت في تخفيف وطأة الوباء في إسبانيا وإيطاليا، خصوصاً في مراكز رعاية المسنين التي ضربها الوباء بشدة بين مارس/ آذار وإبريل/ نيسان 2020. كما وفرت المنظمة رعاية صحية لآلاف المهاجرين السريين في دول أوروبا، وبينها بلجيكا وفرنسا، من دون الحاجة إلى أوراق رسمية.
وفي بيان الذكرى الخمسين لتأسيسها، أشارت "أطباء بلا حدود" إلى أن "المشهد العالمي تغيّر كثيراً، فنحن نرى أشخاصاً يعانون من الفقر، ومجتمعات تتعرض للإقصاء في مناطق لم نتخيّل أبداً أن أطباءنا سيضطرون إلى العمل فيها يوماً".
وأضاف: "نعلم أننا لا نحظى بقبول لدى كل فئات المجتمع كما كان الحال في الماضي، فعندما ننقذ الناس في البحر المتوسط نعاقب ونتهم بمساعدة مهربي البشر. وقد جرّمنا مرات على العمل الإنساني الذي يهدف إلى مساعدة الآخرين، وتعرضنا لهجمات".