السلطان الأخير في دمشق

أنس أزرق

avata
أنس أزرق
13 أكتوبر 2014
+ الخط -
ترتبط ذاكرة الشعوب برموز من ماضيها، لذا تُشاد المدافن والأضرحة وتنصب التماثيل والمنحوتات للقادة والشعراء والكتّاب والفرسان ورجال الدين الذين تركوا أثراً في وعي الناس وتاريخهم.
ويرتبط ذلك بصياغة سياسية واجتماعية، وحتى دينية ومذهبية، فتعلو بعض الاضرحة وقيمة أصحابها وتُطمَس مقابلها قبور آخرين.
وكثيراً ما تكون هذه الصناعة والصياغة ليست دقيقة وربما مفبركة ووظيفتها بناء هوية اجتماعية أو وطنية أو قومية.
في بلادي المنكوبة، بلاد الشام، الكثير من الاضرحة الحقيقية والمشكوك بها والمزيفة.
في بلادي، وقبل حرائقها، كان الجامع الأموي في حلب يزهو بمقام النبي زكريا، وقريباً منه السهروردي والنسيمي، اللذين تهتم أذربيجان بهما، وبينهما ترقد أمام القلعة الملكة ضيفة خاتون.
ويفخر الجامع الاموي في دمشق برفات النبي يحيى (يوحنا المعمدان) ورأس الحسين، وقريباً منهما ضريح صلاح الدين الايوبي، وليس بعيداً الظاهر بيبرس والفيلسوف الفارابي، الذي تكفّلت كازاخستان بإقامة مركز ثقافي حول ضريحه. ومن سفح قاسيون، يُطلّ الشيخ الاكبر، ابن عربي، والذي كان الى جانبه عبد القادر الجزائري.
في بلادي، صراعٌ مساحته تمتدّ لهذه الأضرحة، فتغدو هدفاً للنيران وأسباباً للحرب، من مقام السيدة زينب في دمشق، الى مقام عمار بن ياسر في الرقة، مروراً بضريح عمر بن عبد العزيز وأبو العلاء المعري، في المعرة، ومسجد خالد بن الوليد في حمص.

الجد الأول والسلطان الأخير:

بات معروفاً أن ضريح جد العثمانيين الأول، سليمان شاه، موجود في سورية وأنه أحد محددات الموقف التركي ممّا يجري اليوم على حدود البلدين، بينما ما هو ليس شائعاً أن ضريح آخر سلاطين بني عثمان، السلطان محمد وحيد الدين، تضمّه التكيّة السليمانية في قلب دمشق.
وسليمان شاه جد عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية، مات غرقاً في نهر الفرات أثناء فراره مع عشيرته بعد إحدى غزوات المغول عام 1227 أو 1231 ولم يعثر على جثته ولكن أقيم له وللغرقى معه مدفن قرب قلعة جعبر سمّي بالمدفن التركي، والقلعة الآن تحيط بها مياه بحيرة الأسد بعد إنشاء سد الفرات وتتبع لمنطقة الطبقة في محافظة الرقة.
وبعد استيلاء العثمانيين على سورية إثر معركة مرج دابق في محافظة حلب 1516 ـ 1517، حوّل السلطان سليم الأول المدفن الى بناء لائق عُرف بالمزار التركي "تورك مزاري".
بعد تفكّك الدولة العثمانية وصعود مصطفى كمال وقيادته لحروب الاستقلال، توصّل لعقد اتفاقية أنقرة الأولى عام 1921 والتي أنهت القتال التركي ـ الفرنسي مقابل تعديل الحدود مع سورية المنتدبة التي أقرتها معاهدة سيفر.

ويورد الباحث جمال باروت، في كتابه "التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أن فرنسا تنازلت بموجب هذه الاتفاقية عن"18 كلم2 من الأراضي السورية، شملت كليكيا وقسماً كبيراً من الجزيرة (مرعش وأورفة وماردين وسوت وكلس وعينتاب). وفي سياق هذه الاتفاقية، خرجت الوحدات الكمالية المرابطة مع دولة الرقة المستقلة.. وتم إخماد ثورتي الشمال والساحل".
وفي إطار تهيئة الأجواء للاتفاقية، منحت فرنسا لواء اسكندرون نظاماً إدارياً خاصاً يضعف ارتباطه بحكومة حلب ويجعل اللغة التركية لغة رسمية إلى جانب العربية، ورفعت نسبة الاتراك في اللواء من 28.5% إلى 38.9%.
أما المقابل، فهو اعتراف تركيا بالانتداب الفرنسي على سورية ووقف الدعم لثورة إبراهيم هنانو، ما اضطرّه الى مغادرة سورية الى الأردن حيث قبض عليه الانكليز وسلّموه الى الفرنسيين لمحاكمته، وجرت تبرئته عام 1922 بعد المطالعة الشهيرة التي قدمها المحامي فتح الله الصقّال بحلب.
وقّع المعاهدة الدبلوماسي الفرنسي هنري فرانكلان بويون، وهو رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الفرنسي ووزير سابق، وقد سُمّيت الاتفاقية باسمه، ووزير الخارجية التركي، يوسف كمال.
وذكرت المادة الثامنة من الاتفاقية، والخاصة بقبر جد العثمانيين سليمان شاه، أنّ موقع القبر يُعتبر جزءاً من الأراضي التركية يُرفع عليه العلم التركي وتُقيم فيه حامية تركية.
ويورد الباحث عبد الله حجار، في بحث له بأرشيف حلب الوطني نص ترجمة هذه المادة:
«The tomb of Suleiman shah the grandfather of the sultan Osman founder of the ottoman dynasty (the tomb known under the name of turk mazary) situated at jaber-kalesi shall remain with its appurtenances the property of Turkey who may appoint guardians for it and may hoist the Turkish flag there».
"إنّ قبر سليمان شاه، جدّ السلطان عثمان مؤسّس السلالة العثمانية (المعروف باسم "المزار التركي")، والواقع عند قلعة جعبر، سوف يبقى مع ملحقاته بملكية تركيا التي بإمكانها أن تعيّن له حرّاساً وأن ترفع العلم التركي فيه".
وافقت حكومة ما يسمى «المجلس الشعبي الكبير» التركية، في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1921، على الاتفاقية، ونالت الاتفاقية موافقة حكومة الانتداب الفرنسي في الرابع والعشرين من تموز/ يوليو 1923، ورُفع العلم التركي على موقع قبر سليمان شاه في سورية منذ ذلك الحين.
وأصبحت هناك حامية تركية تحضر من تركيا وتُبدَّل مرّة كل شهر، تقوم على حراسة ورعاية القبر المحاط مع توابعه بسور حماية أقيم مقابل مدخله مخفر سوري.

نقل الضريح:

ويكمل الباحث حجار، وهو عضو في جمعية العاديات بمدينة حلب، قصة نقل الضريح من جانب قلعة جعبر بمحافظة الرقة الى قرب قرية تل قوزاق بمنطقة منبج بمحافظة حلب، وذلك بعد قرار إنشاء سد الفرات، 1968.
"كان الضريح سيُغمر، فجرت مفاوضات سورية ـ تركية لنقل الضريح الى مكان آخر.
وقد أصرّ الجانب التركي، في المفاوضات المشتركة حول سد الفرات، على إبقاء الضريح في الأراضي السورية ونقله الى تلّة مرتفعة شمال تل قره قوزاق (يبعد نحو 30 كلم الى الشرق من منبج، ويبعد نحو 30 كلم عن كركميش والحدود التركية شمالاً)، حيث بُني عام 1972 جسر عظيم فوق الفرات يصل الجزيرة بالشامية.

وأصبح جميع مستخدمي الطريق بين حلب ومنبج وعين العرب وعين عيسى والحسكة والقامشلي يشاهدون العلم التركي يرفرف على قبر سليمان شاه في ذهابهم وإيابهم".
مع شهر العسل التركي ـ السوري والذي بدأ في عام 2004 بزيارة بشار الأسد الى تركيا كأول رئيس سوري يزور تركيا، أصدرت اللجنة المشتركة السورية ـ التركية قرارها، عام 2010، بوضع شاخصات ولوحات إرشادية تدلّ على موقع الضريح.

ضريح السلطان الأخير:

تقع التكية السليمانية في قلب دمشق، ويعود بناؤها للسلطان العثماني سليمان القانوني، الذي أمر ببنائها عام 1554، في مكان قصر الظاهر بيبرس، المعروف باسم "قصر الأبلق". وقد صمّمها المعماري التركي المعروف "سنان".
والتكية تضم أيضاً رفات السلطان العثماني الأخير، محمد وحيد الدين، شقيق السلطانين عبد الحميد الثاني ومحمد رشاد الخامس، وقد تولّى أمور السلطنة من 4 يوليو 1918 إلى 1 نوفمبر 1922، حيث أصدر "المجلس الوطني الكبير" قرار حل السلطنة.
رفض السلطان، الملقب بمحمد السادس، القرار فنفاه أتاتورك الى مالطة ومنها غادر الى الحجاز بطلب من الشريف حسين، ومنها رحل الى مصر فإيطاليا حيث مات فقيراً عام 1926، وبقيت جثته أياماً بدون دفن بقرار من محكمة إيطالية حتى الإيفاء بديونه.
نقل جثمانه الى بيروت فدمشق التي دفن فيها بناءً على وصيته بجنازة حضرها رئيس الدولة السورية، أحمد نامي.
وممّا يذكر لهذا السلطان أنه، وباعتراف أتاتورك، كان يستطيع أخذ المجوهرات الثمينة من قصره، ولم يفعل، وهو الذي دعم أتاتورك وعيّنه مفتشاً عاماً على الجيش بصلاحيات واسعة، ونقل عنه أنه قال له حينها: "إنك تستطيع أن تنقذ الدولة".
لكن أتاتورك، وبعد تشكليه المجلس الوطني الكبير بأنقرة، في مارس/ آذار 1920، احتفظ بعلاقات إيجابية معه الى أن أبلغه عام 1922 بفصل الخلافة عن الدولة وابقائه خليفة فقط، وحين رفض، صدر قرار حل السلطنة وانتخب البرلمان نسيبه الملقب عبد المجيد الثاني خليفة دون سلطات الى حين إلغاء الخلافة في 3 مارس 1924.

ومثلما حصل مع ضريح سليمان شاه بشهر العسل السوري ـ التركي، حصل مع التكية السليمانية، حيث تعهّدت تركيا بترميم التكية وإعادتها كما كانت، وبالتالي فتح المقبرة الصغيرة الملحقة بها أمام الزوار، وحيث لم يكن هذا متاحاً ووقعت اتفاقية بهذا الشأن عام 2007، ما جعل الحكومة السورية تنقل المتحف الحربي من التكية، التي زارها أردوغان ومضيفه بشار الأسد عام 2009.

سيف الدولة الحمداني 915 ـ 967 م:

قصة هذا الرمز السوري مختلفة عن الرمزين الذين ذكرنا بعضاً من سيرتيهما.
فسيف الدولة، صاحب حلب وصاحب المتنبي والفارابي وابن خالويه وأبو فراس الحمداني وغيرهم، دفن في مسقط رأسه مدينة ميافارقين، واسمها اليوم سيلڤان وتقع في تركيا، وكانت تعتبر أهم مدن ديار بكر وربيعة.
وذكر لي الباحث محمد قجة أن "سيف الدولة واسرته مدفونون جميعاً في ميافارقين، والناس هناك يسمونها مقبرة ملك حلب، والقبر ليس بحال جيدة".
وسيف الدولة لقب لعليّ بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان التغلبي، منحه إياه الخليفة العباسي، المتقي لله، بعدما انتصر على المتمردين على الدولة العباسية وهو في العشرين من عمره، ثم جاء إلى حلب أميراً عام 333 للهجرة ـ 944 م. قادماً من ميافارقين. وضمت إمارته آنذاك: حلب والجزيرة الفراتية وإقليم الثغور والعواصم. ‏
وهو مَن قال فيه المتنبي:
كيف لا يأمنُ العراقُ ومصر‏ وسراياكَ دونَها والخيولُ‏
وسوى الروم خلفَ ظهرك رومٌ‏ فعلى أيِّ جانبيك تميلُ‏
ما الذي عنده تُدارُ المنايا‏ كالذي تُدارُ عنده الشَّمول‏.