وتجمع هذه الدعوات التي تطلقها قيادات عسكرية في الخدمة النظامية والاحتياط ومراكز تفكير على أن نظرية الأمن القومي التي بلورها بن غوريون، والتي تحكم الاستراتيجية الهجومية والدفاعية لإسرائيل حتى الآن لا تستجيب للتحول على مركبات القوة العسكرية التي يملكها "الأعداء"، لا سيما الترسانة الصاروخية.
فحسب نظرية "بن غوريون"، فإنه يتوجب على إسرائيل عدم السماح باندلاع الحرب على أرضها مطلقاً، في حين أن امتلاك "العدو" صواريخ دقيقة ذات قوة تدميرية كبيرة يجعل الجبهة الداخلية الإسرائيلية ساحة للمواجهة.
لكن النخب العسكرية الإسرائيلية تختلف في تقديرها أهداف استراتيجية الأمن القومي المقترحة.
فحسب دراسة أعدها كل من رئيس هيئة أركان الجيش السابق الجنرال غادي إيزنكوت والعقيد المتقاعد غابي سيبوني، وصدرت، أخيراً، عن "مركز أبحاث الأمن القومي" الإسرائيلي، فإنّ ما يفاقم خطورة التهديد الصاروخي حقيقة أن الأغلبية الساحقة من التجمعات الديموغرافية والمرافق الاقتصادية والاستراتيجية الحساسة تتركز في السهل الساحلي، الذي يمثل قطاعاً جغرافياً محدوداً وضيقاً، مما يزيد من خطورة نتائج الهجمات الصاروخية على الجبهة الداخلية.
ولفتت الدراسة إلى أن هذا التهديد لا يسهم فقط في التأثير على نمط الحياة في إسرائيل ولا يضر فقط بالمرافق الحيوية، بل إنه يهدد قدرة الجيش على تجنيد قوات الاحتياط ونقلها إلى الجبهات.
وحذّرت من أن أحد التحولات التي توجب على إسرائيل إعادة النظر في استراتيجيتها للأمن القومي يتمثل في سعي قوى "معادية" للحصول على سلاح الدمار الشامل، لا سيما إيران التي تبدي حرصاً على الحصول على السلاح النووي، فضلاً عن سعيها لتوسيع نفوذها في محيط إسرائيل.
وأشارت الدراسة إلى أن استراتيجية الأمن القومي يتوجب أن توفر ضمانات لتأمين خطوط التجارة الإسرائيلية، لا سيما في حوض البحر المتوسط، التي يمكن أن تتعرض لعدد كبير من مصادر التهديد.
واعتبرت الدراسة أن أحد العوامل الداخلية التي تهدد الأمن القومي الإسرائيلي تتمثل في تعاظم حدة التصدعات في المجتمع على خلفية مظاهر الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي والإثني، محذرةً من أن هذه التصدعات تمثل تحدياً كبيراً لإسرائيل، على الرغم من تطورها التقني العلمي ومنعتها الاقتصادية.
وأشارت إلى أن ما يفاقم خطورة تصدعات المجتمع حقيقة أنها تترافق مع تفاوت واضح في تقدير القوى الأيديولوجية لطابع "القيم الوطنية".
وبخلاف نظرية الأمن القومي، التي تمت صياغتها في خمسينيات القرن الماضي، فإن كلاً من إيزنكوت وسيبوني يعتبران أن المركب الدفاعي هو المركب الأساسي الذي يوجب تضمينه في الاستراتيجية الجديدة، بحيث يضمن هذا المركب تأمين بقاء إسرائيل كدولة وإحباط التهديدات التي تتعرض لها، مشيرين إلى أن الإجراءات الدفاعية تهدف إلى منع اندلاع حروب أو على الأقل تأجيلها أطول فترة ممكنة.
وتشير الدراسة إلى أن تبني سياسات هجومية يجب أن تكون المركب الثاني في أهميته، مبينةً أن هذا المركب يمكن تنفيذه في إطار استراتيجية "المواجهة بين الحروب"، والمتمثلة في المبادرة بشن هجمات بهدف المس بمراكز القوة العسكرية لدى العدو، لتقليص قدرته على الصمود في حال اندلعت حرب شاملة.
ولفتت الدراسة إلى أنه يتوجب على إسرائيل أن تضمن تفوقاً نوعياً على أعدائها بشكل واضح من أجل تجاوز تفوقهم الكمي؛ إلى جانب ضرورة تصميم الحروب، بحيث يتم ضمان نقل المواجهات إلى قلب أرض العدو.
وتحث الدراسة على وجوب الحرص على محاولة تقليص أمد الحرب القادمة وتخفيض قيمة الثمن الذي تدفعه إسرائيل من أجل تحقيق الانتصار والحسم.
لكن الباحث شموئيل حرليف لا يتفق مع ما جاء في دراسة إيزنكوت وسيبوني، ويرى أنه يتوجب على إسرائيل عدم اشتراط تحقيق الحسم في أية معركة قادمة، على اعتبار أن هذه المهمة مستحيلة، فضلاً عن أن الثمن الذي ستدفعه إسرائيل وهي تحاول تحقيقه سيكون كبيراً جداً.
وفي ورقة صدرت، أخيراً، أيضاً عن "مركز أبحاث الأمن القومي"، يجزم حرليف أنه لم يعد بإمكان إسرائيل تحقيق انتصار حاسم على شاكلة النصر الذي حققته خلال حرب 1967.
ويرى أن استراتيجية الأمن القومي الجديدة لإسرائيل يجب أن تهدف إلى تحقيق هدفين أساسيين، هما: تقصير أمد الحرب وتقليص الخسائر الناجمة عنها، إلى جانب تأجيل موعد اندلاع الحرب القادمة.
وحسب حرليف، فإن تحقيق هذين الهدفين يتطلب تصميم استخدام القوة العسكرية بحيث تهدف إلى "لسع وعي قيادة العدو" وحاضنته الجماهيرية، بحيث لا تفكر مجدداً في المبادرة باستهداف إسرائيل.