وبخصوص محاكمة رموز النظام السابق وصلت وقائع محاكمة وحيدة إلى خواتيمها، مع إدانة البشير قضائياً بتهمة الإثراء غير المشروع والمشبوه والتعامل غير المشروع بالنقد الأجنبي، بعد العثور على ملايين الدولارات في منزله مرسلة من ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان. مع العلم أنه كان من المؤمل مُلاحَقة البشير في المحكمة الجنائية الدولية في قضايا عدة مثل جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في إقليم دارفور غربيّ السودان.
في موازاة ذلك، بوشر العمل بمسارات قانونية عدة تزامناً مع ملاحقة عناصر النظام السابق. ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي تمّ تشكيل لجنة لتفكيك النظام، وقد دشّنت قراراتها بحلّ حزب "المؤتمر الوطني"، وتجميد أرصدة وحسابات أعضاء مكتبه السياسي في المصارف، ومنعهم من السفر خارج البلاد. كما باشرت النيابة العامة ملاحقة البشير وكبار معاونيه عسكريين ومدنيين بتهمة الانقلاب على النظام الدستوري (في عام 1989)، فضلاً عن إثارة عددٍ من قضايا وملفات الفساد، تمهيداً لفتح الملف الأهم المتعلق بتصفية العشرات إبان ثورة ديسمبر 2018.
ولعلّ أبرز المعتقلين بجوار البشير في سجن كوبر بالخرطوم، هو نائبه السابق، علي عثمان طه، المتهم بتأدية دور رئيسي في الانقلاب على نظام ديمقراطي كان يشغل فيه منصب زعيم المعارضة بالبرلمان. الأمر عينه ينطبق على مساعد آخر للبشير، وهو أحمد هارون، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية. ويقبع في السجن أيضاً مساعد البشير الأسبق، نافع علي نافع، المساهم في تثبيت دعائم حكم الرئيس المخلوع لا سيما خلال تقلده منصب مدير جهاز الأمن. وبجانب نافع في سجن كوبر، يبرز الجنرال عبد الرحيم محمد حسين وهو من المقرّبين للبشير، وشغل مناصب حكومية وحزبية عدة، ومنها حقيبتا الدفاع والداخلية.
ومن ضمن المعتقلين أيضاً، نائب البشير في فترة حساسة من عمر الثورة، عثمان يوسف كبر، فضلاً عن عوض الجاز الذي اكتسب صيته في الجوانب الأمنية ولاحقاً في العمل الاقتصادي، بفعل إمساكه بملف النفط والعلاقة مع روسيا والصين، مثيراً غضب الدبلوماسيين في وزارة الخارجية. وضمن قائمة طويلة للمُلاحقين في بلاغ الانقلاب، يبرز الجنرال بكري حسن صالح، وهو الوحيد من ضمن عسكريي مجلس قيادة انقلاب 1989 الذي تولى العديد من المناصب وظلّ على مقربة من البشير، الذي عيّنه كأول رئيس للوزراء بعد استحداث المنصب في عام 2017. ومن بين أبرز المدنيين الملاحقين، يظهر اسم الزبير أحمد الحسن، وهو آخر أمين عام لـ"الحركة الإسلامية"، الحاضنة الفكرية لنظام البشير. وقد أُحيلت أوراق الحسن، ووزير المالية السابق علي محمود عبد الرسول، للجنة تفكيك النظام، في إطار التحقيقات في شأن قضايا فساد في مصلحة النقل النهري. ومن ضمن المشمولين بالاعتقال في بلاغ الانقلاب أيضاً، قيادات بارزة في حزب "المؤتمر الشعبي" الذي أسسه الراحل حسن الترابي، من ضمنهم مساعد البشير إبراهيم السنوسي، والأمين العام للحزب علي الحاج محمد.
ويشدّد أعضاء في لجنة التفكيك على مضيّهم في مهمتهم، رغم الحديث عن تباينات في ما بينهم، مع كثرة الطعون الواردة من خارجها، تحديداً من الصف الإسلامي الذي تحول بالكامل تقريباً إلى جانب المعارضة. غير أن عضو لجنة التفكيك وجدي صالح، ينفي في حديثٍ لـ"العربي الجديد" مسألة التباين، مشيراً إلى وجود محاولات مستميتة من عناصر النظام السابق لتعطيل عمل اللجنة، من خلال اعتماد أساليب الطعن والتشويش وبث الشائعات. أما عن حلّ وإلغاء تسجيل منظمة "الدعوة الإسلامية"، فيؤكد صالح أن لديهم ما يثبت أن المنظمة هي واجهة لنظام المخلوع، وصدر القرار بحقها بالتوافق مع القانون الذي يمنح الولاية للسودان في تسجيل المنظمات على أرضه، في سياق القوانين الوطنية.
وتلاحق اللجنة عدداً من أقارب البشير وقيادات في حزبه بتهم الفساد المالي واستغلال النفوذ، بينما تمّ إعفاء عدد كبير من المحسوبين على نظامه من العمل في مؤسسات الخدمة المدنية. ووضعت السلطات عبد الله، شقيق عمر البشير، في المعتقل، مع تحقيقها في شبكة علاقاته ومصدر أمواله، كما تتم ملاحقة زوجة البشير الثانية، وداد بابكر، بتهمٍ تتصل بالفساد المالي والإثراء غير المشروع والمشبوه. وفي هذا الإطار، تمّت مصادرة "منظمة سند الخيرية"، التابعة لبابكر، بعد تبيان وجود تجاوزات كبيرة داخلها، إثر إخضاعها للمراجعة. وسبق للجنة أن أصدرت قرارات عدة قبل أيام، قضت بمصادرة 153 عقاراً في وسط العاصمة الخرطوم، كانت مملوكة لثلاثة أشخاص من قيادات نظام البشير، هم وزير الخارجية الأسبق علي أحمد كرتي، ووالي الخرطوم الأسبق عبد الحليم المتعافي، ومدير عام الشرطة الأسبق هاشم عثمان الحسين.
لكن الخطوات المتخذة لم ترضِ الجميع، فحاتم أبوعبيدة، وهو قيادي شاب في حزب "المؤتمر الوطني" المنحل، يعتبر في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن لجنة حكومة عبد الله حمدوك، ولجنة إزالة التمكين (لجنة لمصادرة وحجز وحل المؤسسات والمنظمات للاشتباه في تبعيتها للنظام السابق وحزب المؤتمر الوطني المنحل)، تعملان بكثير من الضغائن والشخصانية ضد كل ما هو إسلامي. ويضيف أن "الحكومة التي كانت تهول من تمكين الإسلاميين في مفاصل الدولة، تمارس الفعل ذاته، وتبعد الناس بشبهة الانتماء السياسي الذي لا يعتبر جريمة، طالما كان عنصر المهنية حاضراً، وأحياناً بلا داعٍ سوى لإفراغ عدد من الوظائف لصالح القادمين الجدد".
وأصدرت لجنة التمكين قرارات عدة بحل مجالس إدارات المصارف بما في ذلك المصرف المركزي، ومنظمات الرضوان، والثريا، وأم الخير، لاستخدامها حساباتها المصرفية بغية إيداع الأموال المحوّلة من مؤسسات الدولة لحساب "المؤتمر الوطني". وتتهم اللجنة منظمة الرضوان بالاستيلاء على 16 مليون سهم مخصصة لولاية الخرطوم في مصرف التنمية التعاوني الإسلامي، فيما تم استرداد 28 قطعة أرض في حي كافوري الراقي شرقي العاصمة الخرطوم، بعدما كانت مسجلة باسم منظمة معارج، التابعة لأشقاء البشير.
وتواصل لجنة التفكيك والنيابة العامة، ملاحقة علي كرتي، أحد أبرز الكوادر التنظيمية في العهد السابق، وينسب إليه كل حراك الإسلاميين الاحتجاجي الحالي سواء في العاصمة أو الولايات، فيما يتحرك الوالي السابق، الجنرال أنس عمر، بفاعلية وعلانية في المشهد، ما يجعله أحد أبرز الكوادر في حزب البشير بالوقت الحالي. كذلك تلاحق السلطات مدير جهاز الأمن الأسبق، صلاح قوش، الموجود خارج البلاد، والذي يدور حوله جدل كثيف بشأن دوره في عملية التغيير والإطاحة بالبشير. أما مدير جهاز الأمن السابق محمد عطا المولى، المقيم في تركيا، فتبرز مطالبات بضرورة ملاحقته لكونه، مع قوش، بمثابة صندوق أسرار الدولة، ويُعتقد ضلوعه في مقتل أكثر من 200 محتج أثناء قمع هبّة سبتمبر/أيلول 2013 ضد نظام البشير.
وزير الخارجية الأسبق إبراهيم غندور، الذي عمل مساعداً للبشير ما زال طليقاً، بل سُمّي رئيساً لحزب البشير بصورة مؤقتة. ومن الشخصيات ذات الثقل في منظومة البشير من غير المشمولين بالحبس والاعتقال ويتحركون من تركيا، يبرز العباس، شقيق البشير الأصغر، ورئيس الوزراء السابق معتز موسى، الذي قمع الكثير من الثوار في عهده، وفيصل حسن إبراهيم وهو عضو بارز في حزب البشير. وخارج الأسوار هناك كمال عبد اللطيف وزير المعادن في عهد البشير، الذي حذّر كثر منه لقدرته على الحشد والتعبئة. في المقابل، أطلقت السلطات أخيراً سراح وزير الصحة بولاية الخرطوم، مأمون حميدة، بعد 10 أشهر من الاعتقال، غير أنها تجري عمليات تدقيق كبيرة لاستثماراته الصحية، ومعرفة ما إذا كان استغل منصبه في خدمة هذه المصالح، بعد انتزاع مستشفيين من عهدته لصالح الحكومة بواسطة لجنة التفكيك.