7 مستشارين تعاقبوا على حكم ألمانيا قبل ميركل

26 سبتمبر 2021
تُقيم ألمانيا احتفالات سنوية بمناسبة الوحدة (ينس بوتنر/فرانس برس)
+ الخط -

تُقدّم ألمانيا الاتحادية نموذجاً للاستقرار السياسي في القارة الأوروبية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، على الرغم من انقسامها إلى ألمانيتين: غربية بحكم رأسمالي ديمقراطي، وشرقية انتهجت نموذج الاتحاد السوفييتي في الحكم. لكن ذلك لم يمنع من تحول البلاد لاحقاً إلى حقبة الاستقرار السياسي، سامحاً لها باحتلال مكانة متقدمة في قيادة قاطرة الاتحاد الأوروبي. وعلى عكس ألمانيا، ظلّت إيطاليا، على سبيل المثال، بعد هذه الحرب غارقة في تخبطها السياسي، مع تشكيلها 67 حكومة بقيادة 30 رئيساً للوزراء، بينما حافظ الألمان على الاستقرار، فتعاقب على الحكم 8 مستشارين (رؤساء حكومات) و24 حكومة. وبالنسبة للطبقة السياسية الألمانية، شكّل الاستقرار السياسي المفتاح السحري ليس فقط لصحة الديمقراطية والتمثيل الشعبي، بل كان مفتاحاً رئيسياً للتخلص من مشاهد الدمار التي خلفتها الحرب في بلادهم، نحو بناء دولة الرفاهية والتقدم.

لم يكن للنظام الاتحادي والبراغماتية السياسية تأثير سلبي على الرفاه والتقدم الاقتصادي، ولا حتى على الروح الوطنية لدى الشعب الألماني، الذي يقدّر اليوم بنحو 83.2 مليون نسمة. فالاستقرار عند الألمان عكس رغبة في تأمينه، كي لا تتكرر الظروف الفوضوية التي سادت فترة "جمهورية فايمار" (1918 ـ 1933)، نسبة إلى المدينة الواقعة في وسط البلاد. وهي الفوضى التي عبّدت الطريق أمام الصعود النازي بزعامة أدولف هتلر، وما خلفته من ويلات وكوارث على البلاد.

كان أديناور بمثابة رافعة لبناء ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية

وفي السنوات الـ16 الأخيرة ارتبطت ألمانيا بمستشارتها أنجيلا ميركل، التي ظلّت في دفة الحكم 16 سنة متتالية تنتهي اليوم الأحد، مع إجراء انتخابات "البوندستاغ" (البرلمان). على أن الانتخابات العتيدة تُشكّل اختباراً لمدى قدرة ألمانيا على النجاة من وباء كورونا والاضطرابات العالمية وتزايد الاتجاه اليميني المتشدد الداخلي، المحاصر بدستور ما بعد الحرب، والمحمي بأجهزة وبنى لا تسمح بتكرار صعود التطرف إلى السلطة. وهو تحدّ مرّ عليه سبعة مستشارين سبقوا ميركل، وكان لكل منهم بصمته في سياق النظام.

المستشار العجوز.. كونراد أديناور
بعد إقرار الدستور الجديد في ألمانيا الغربية في عام 1949، تسلّم كونراد أديناور منصب المستشارية، واستمرّ في السلطة من العام المذكور وحتى عام 1963. عُرف بالرجل العجوز لكونه تسلّم منصبه بعمر 73 سنة، حين اختير من قبل الحلفاء في الحرب (بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة) للمساعدة بإنشاء الديمقراطية الألمانية الحديثة لفترة ما بعد الحرب. شغل أديناور منصب عمدة مدينة كولن لفترة قصيرة، ولم ينتمِ للحقبة النازية أو يتأثر بها، واعتُبر القوة الدافعة لتأسيس حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، الذي تولى السلطة لـ52 عاماً من أصل 72 منذ نشأة ألمانيا الغربية عام 1949، وصولاً إلى اتحاد الألمانيتين في عام 1990.

ولا يزال أديناور يحتلّ مكانة عالية عند الألمان، على الرغم من أنه كان كاثوليكياً وتقليدياً، بسبب طموحه القوي لضمان استئناف ألمانيا الغربية مكانتها في الغرب الأوروبي. وفي عهده انضمت ألمانيا إلى حلف شمال الأطلسي، وساهمت في إنشاء السوق الأوروبية المشتركة، التي ستصبح لاحقاً الاتحاد الأوروبي. وفي زمنه هبت عواصف الحرب الباردة وأزماتها الكبرى، وأكثرها تأثيراً على الألمان بناء جدار برلين برغبة سوفييتية عام 1961، واضطرت البلاد إلى نقل عاصمتها إلى بون على نهر الراين. وتقاعد المستشار أديناور عن عمر يناهز 87 عاماً وتوفي بعمر 91 عاماً.

الاقتصادي لودفيغ إيرهارد
من ذات الحزب الديمقراطي المسيحي وصل لودفيغ إيرهارد إلى منصب المستشارية، بين عامي 1963 و1966. وعُدّت ولايته انعكاساً لبداية ثمرة الانتعاش الاقتصادي في البلاد بعد الحرب. وركز كثيراً على النظام الصحي للألمان، مستحضراً تجربته كوزير للاقتصاد في عهد سلفه أديناور، وذلك عبر انتهاج سياسة ليبرالية شكّلت أساساً للنمو والازدهار، من أجل استكمال إزالة ركام الخراب في البناء والصناعة الذي فتح أبواب ألمانيا أمام اليد العاملة المهاجرة، وبالأساس من تركيا والمغرب ويوغسلافيا السابقة.

وعلى الرغم من عدم تميّزه بصفة "المستشار القوي"، إلا أن إيرهارد قدّم لشعبه مصطلح "اقتصاد السوق الاجتماعي"، برأسمالية ألمانية ذات وجه إنساني، متجنّباً الاضطرابات السياسية التي تؤسس لها اضطرابات اجتماعية. وفي زمنه بدأت النقابات الألمانية تشقّ طريقها لتأدية أدوار قوية. واضطر الرجل لمغادرة منصبه بعد أن واجه تحديات داخل حزبه وانسحاب شريكه في الحكم الحزب الليبرالي، لكنه ظلّ عضواً في البرلمان حتى وقت قصير قبل وفاته في عام 1977.

أسس إيرهارد لمصطلح السوق الاجتماعي وأجرى شرودر إصلاحات عميقة

المقرّب من غوبلز.. كورت كيسنجر
تبوأ كورت جورج كيسنجر منصب المستشارية بين عامي 1966 و1969 في ظل أزمة ترافقت مع البحث في تاريخه السياسي، إذ اعتُبر مقرّباً من وزير الدعاية النازي جوزيف غوبلز. وعرفت ألمانيا في عهده، شأن دول الغرب عموماً ما سمي بـ"انتفاضة الشباب" في عام 1968، وتلقى بنفسه صفعة من قبل الناشطة والصحافية الألمانية - الفرنسية بيات كلارسفيلد التي أخرجت ماضيه النازي إلى العلن، مؤججة النقاش حوله. وشهدت ألمانيا في السياق صدامات يومية عنيفة بين الشباب والشرطة. وعلى الرغم من دعمه من قبل بعض السياسيين من حزبه "الديمقراطي المسيحي"، إلا أنه سقط أخيراً في تمهيد لوصول الحزب "الاجتماعي الديمقراطي" إلى الحكم بزعامة فيلي برانت.

المصالحة.. عصر فيلي برانت
أتت ثورة الشباب في الشارع بتغيير على الخريطة السياسية - الحزبية في غرب ألمانيا، وعلى المزاج العام فيما خص "الحرب الباردة" (1947 ـ 1991) بين الشقيقين في الشرق والغرب. وفي تلك الأثناء كان يلمع نجم السياسي في معسكر يسار الوسط، فيلي برانت، الذي شغل منصب عمدة برلين الغربية بعد عودته من لجوئه إلى النرويج إثر انتهاء الحرب في بلاده. ترشح برانت عن "الاجتماعي الديمقراطي" إلى منصب المستشارية تحت وعود المزيد من الانفتاح والديمقراطية، فشكل وسط حركة الشباب في الشارع حكومة ائتلافية مع الحزب الليبرالي بين 1969 و1974.

منحته سياسة التقارب و"الانفراج" مع الشقيقة الشرقية، والاعتراف بها كجمهورية ألمانيا الديمقراطية، المزيد من الشعبية و"نوبل للسلام". وتميزت سياساته بالإصلاحات الكثيرة (المستمرة حتى اليوم في مجالات الرعاية) بتحرر ألمانيا الغربية من حقبة ما بعد الحرب. وأدت سياساته الانفتاحية والكاريزما التي تمتع بها نحو منح حزبه "الاجتماعي الديمقراطي" المزيد من الشعبية في الشارع. وأُعيد انتخابه في عام 1972 وسط انتقادات وسخط يمين الوسط من تقاربه مع ما كان يُعرف آنذاك بـ"الكتلة الشرقية" (دول المحور السوفييتي في شرق أوروبا).

سقط برانت في فخ رومانسيته السياسية في التقارب مع شيوعيي شرق ألمانيا، إذ اكتشفت المخابرات الغربية أن أحد مساعديه المقرّبين، غونتر غيوم، لم يكن سوى جاسوس لجهاز استخبارات ألمانيا الشرقية "شتازي"، فاضطر للاستقالة من المستشارية. وعلى الرغم من كل ما جرى بقي نجمه لامعاً في صفوف حزبه الذي ظل يرأسه لسنوات، واحتفظ بسمعة جيدة وعلاقات دولية كأحد منظّري السلام والديمقراطية حتى وفاته في عام 1992.

وحّد كول ألمانيا وعبّد الطريق لتلميذته ميركل لقيادتها

مدير الأزمات.. هلموت شميت
بعد استقالة برانت في 1974 اعتلى منصب المستشارية السياسي هلموت شميت، وسط أزمات داخلية، من بينها عنف اليسار المسلح على يد "جماعة الجيش الأحمر" المعروفة بـ"بادر ماينهوف"، من خلال حملة اغتيالات طاولت رجال سياسة وأعمال في البلاد، فضلاً عن تداعيات "أزمة النفط" التي أسست لها المقاطعة العربية إبان حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

استخدم شميت مهاراته في إدارة الأزمات، على الرغم مما عاناه صحياً من أمراض قلب، وظلّ مثابراً على سياسة سلفه في الانفتاح على المعسكر الشرقي ومندفعاً ببرامج الإصلاح الاقتصادي في بلده. وساهم مع الرئيس الفرنسي الأسبق، فاليري جيسكار ديستان، في التأسيس لمجموعة الدول السبع (ألمانيا الغربية، الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، اليابان، إيطاليا، كندا) في عام 1975. وكان أيضاً صاحب فكرة التفاوض مع الاتحاد السوفييتي على نزع السلاح وخفض عديده، بما في ذلك الصواريخ النووية الجديدة، وعُرف بتنسيقه مع أحزاب الاجتماعيين الديمقراطيين في دول الجوار الاسكندينافي (الدنمارك، السويد، فنلندا، النرويج) للتخفيف من وطأة ذاكرتها مع الاحتلال النازي لها. وظلّ شميت في منصبه حتى عام 1982 عندما خرج الحزب "الليبرالي" من الائتلاف الحاكم، ثم توفي عن 96 عاماً في 2015، بعد سنوات من عمله في رئاسة تحرير عدة صحف ألمانية.

"أبو الوحدة".. هلموت كول
جاء المستشار هلموت كول إلى منصب المستشارية في بون بين عامي 1982 و1998، في حقبتي الرئيس الأميركي رونالد ريغان (1981 ـ 1989)، ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر (1979 ـ 1990). وهي الفترة التي اتسمت باضطراب الاتحاد السوفييتي ثم تفككه في عهد آخر زعيم له ميخائيل غورباتشيف، فضلاً عن تزايد المطالب بتهديم جدار برلين، أو ما كان يسمى "الستار الحديدي". واستطاع السياسي المخضرم بفعل مراكمته خبرة ترؤس حكومة محلية في راينلاند بيفالز بين عامي 1969 و1976، قيادة حزبه "الديمقراطي المسيحي" إلى انتهاز فرصة انفتاح كوة في الستار الحديدي للتبشير بوحدة الألمانيتين. وفي اللقاءات التي جمعته بغورباتشيف، انتزع كول من الكرملين الموافقة على توحيد شطرَي ألمانيا. وبعد إقرار الوحدة في عام 1990، خصص كول، حتى نهاية عهده في عام 1998، كل وقته للمّ شمل الألمانيتين اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. ثم ضربته أزمة "التبرعات السرية"، فاضطر بعد فضيحة تمويل "الديمقراطي المسيحي"، وخسارته انتخابات 1998 إلى التنازل عن قيادة الحزب لتلميذته أنجيلا ميركل. وعاش كول سنواته الأخيرة بهدوء، وظلت سمعته كـ"موحّد ألمانيا" أو "أبو الوحدة" ملازمة له حتى وفاته في عام 2017.

القوة في الاقتصاد.. غيرهارد شرودر
بعد سقوط كول في انتخابات 1998 عاد الحزب "الاجتماعي الديمقراطي" بقيادة غيرهارد شرودر، الآتي من رئاسة حكومة ولاية ساكسونيا السفلى إلى منصب المستشار الاتحادي بين 1998 و2005، من خلال ائتلاف مع حزب "الخضر" بزعامة يوشكا (جوزيف) فيشر. وضع شرودر لمسته على السياسة الألمانية الموحدة تحت عنوان "أجندة 2010"، فخاض في سبيلها إصلاحات عميقة في سوق العمل والاقتصاد الألمانيين. راهن كثيراً على فكرة أن الاقتصاد يمنح بلاده القوة، وتحسّنت بالفعل القدرات التنافسية للشركات الألمانية ووفّر العمل للملايين. وهو ما جعل المراقبون حتى اليوم ينسبون قوة السوق إلى إصلاحات ذلك الائتلاف بين "الخضر" و"الاجتماعي الديمقراطي" في أواخر التسعينيات وبداية الألفية الثانية.

عرّضه ميله للظهور ببدلات باهظة الثمن وتفضيله سيجار "هافانا" لانتقادات الصحافة الألمانية، التي اعتبرته "مغرور حفلات". واستقال شرودر في نهاية المطاف في عام 2005، منتقلاً للعمل كمستشار رئيسي لدى شركة "غازبروم" الروسية، ولا يزال مستمراً في منصبه، رغم الانتقادات الموجّهة له عن دوره في الترويج لروسيا في الدول الغربية.

المساهمون