الوساطة السودانية وسدّ النهضة: التفاوض مقدّم على حلّ الخلافات

21 مايو 2020
ستبدأ إثيوبيا بالملء الأول للسد في يوليو المقبل(فرانس برس)
+ الخط -

مجدداً، عادت مصر إلى الرهان على فاعلية تحرك السودان للوساطة في أزمة سدّ النهضة، بعدما تمّ الاتفاق بين البلدين على تواصل رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك مع نظيره الإثيوبي أبي أحمد، لاستطلاع موقفه بشأن العودة للمسار التفاوضي حول قواعد الملء والتشغيل مرة أخرى، قبل أن تبدأ إثيوبيا في عملية الملء الأول للسد المعلنة في يوليو/تموز المقبل، مع بداية فترة فيضان النيل الأزرق.

وعلى الرغم من التقارب الواضح بين موقفي القاهرة والخرطوم أخيراً على خلفية زيارات متبادلة لمسؤولي البلدين قبل تفاقم جائحة كورونا، ولا سيما زيارة مدير المخابرات المصرية عباس كامل للخرطوم وزيارة النائب الأول لرئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) المعروف بعلاقته الوطيدة بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للقاهرة، فإن المؤشرات المبدئية للحراك السوداني خلال الشهر الماضي، لا تشي بحلحلة سريعة للأزمة، إذ سبق أن تواصل حمدوك مع أبي أحمد مرات عدة ولوّح بإمكانية زيارته، كما أرسل وفداً للقائه قبل يومين لبحث مواضيع عدة منها سد النهضة والمشاكل المحيطة بالحدود بين البلدين.

وبحسب مصادر دبلوماسية مصرية، فإنّ الوساطة السودانية في بداية طرحها مطلع شهر إبريل/نيسان الماضي، كانت غير محددة المعالم، ولكن "كان من الممكن تحميلها ببعض النقاط الفنية وتطرقها للبحث عن مناطق للتلاقي والاتفاق بين الدول الثلاث"، الأمر الذي تغيّر الآن، إذ أصبحت الوساطة مقتصرة على مسألة "العودة للمفاوضات فقط، وإيجاد قاعدة انطلاق لمرحلة جديدة من المفاوضات، يحاول الجانبان المصري والسوداني ألا تكون منفصلة عما تمّ الاتفاق عليه في واشنطن قبل مقاطعة إثيوبيا لجولة التفاوض الأخيرة في فبراير/شباط الماضي، التي تمخضت عنها صيغة اتفاق وقعت عليها مصر منفردة".

وأضافت المصادر أنّ حصيلة المناقشات الأخيرة التي دارت بين الجانبين السوداني والإثيوبي، وأخطر بها حمدوك ووزيرا الخارجية والري السودانيان نظرائهم المصريين، توضح وجود خلاف رئيسي بين موقفي القاهرة والخرطوم وموقف أديس أبابا، إذ تؤمن الدولتان العربيتان بصلاحية الصياغات التي تمّ الاتفاق عليها في مفاوضات واشنطن الأخيرة كنقطة انطلاق جديدة للتفاوض، الأمر الذي ترفضه إثيوبيا إلى الآن، فهي ترفض الاستناد لأي من مخرجات الاجتماعات التي أشرف عليها وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين.

وذكرت المصادر أنّ هناك اتفاقاً أيضاً بين مصر والسودان على حاجة المفاوضات لرعاية أميركية، من منطلق احتياج المسار إلى وسيط أو مسهل قوي سياسياً، مع مرونة إزاء انتقال الملف للخارجية الأميركية بدلاً من وزارة الخزانة، وذلك للحصول على ضمانات راسخة لاحترام إثيوبيا لما سيتم التوصل إليه، وعدم انقلابها على الاتفاقات، خصوصاً أنه يمكنها بسهولة الالتفاف عليها بالواقع العملي لإدارتها للسدّ.

وأوضحت المصادر أنّ القاهرة تواصلت خلال الساعات الماضية مع واشنطن وعدد من الدول الأعضاء بمجلس الأمن لعرض مستجدات الموقف، خصوصاً في أعقاب تقديم إثيوبيا ردها على الخطاب المصري لمجلس الأمن، والذي تضمن -تأكيداً لما سبق ونشره "العربي الجديد" على لسان مصدر إثيوبي- التشديد على أنّ الملء الأول لن يضرّ بدولتي المصب نظراً لأنه يتزامن مع الفيضان، وأنه لا ينتهك اتفاق المبادئ الموقع بين الدول الثلاث في مارس/آذار 2015، وأنه يمكن كذلك فصل قواعد الملء والتشغيل في السنوات التالية عن فترة الملء الأول.

ويشير الواقع العملي إلى أنّ المصالح المصرية والسودانية متضاربة بشأن السدّ وحتى بشأن الملء الأول، خصوصاً أنّ المقترح الإثيوبي الذي تمّ رفضه مبدئياً من قبل مصر والسودان لتوقيع اتفاق جزئي حول عملية الملء الأول قائم على أن يتم إنجاز الملء الأول الكامل للخزان خلال عامين. إذ تم إعداد مصفوفة حسابية تدعي عدم تضرر أي من دولتي المصب جراء عملية الملء حتى اكتمال تخزين كمية 18.4 مليار متر مكعب، منها 4.9 مليارات متر مكعب في الفترة من يوليو/تموز وحتى فبراير/شباط المقبلين كمرحلة أولى، ثم يتم ملء الكمية المتبقية على ثلاث مراحل أخرى، إحداها طويلة تمتد من يوليو 2021 وحتى فبراير 2022، وقبلها مرحلة قصيرة وبعدها مرحلة قصيرة أخرى، وفي تلك الفترة يتم تشغيل السدّ تدريجياً لإنتاج الكهرباء. وتنتهي المراحل الأربع بتشغيل السدّ بأقصى طاقة استيعابية لتوليد الكهرباء في صيف 2022، مع الحفاظ على حدّ أدنى لإبقاء السد ممتلئاً وقيد التشغيل.

وبحسب مصادر فنية مصرية سبق أن تحدثت لـ"العربي الجديد"، فإنّ هذا المقترح سيؤدي إلى حرمان مصر من فوائض الحصص أو بواقي الفيضان بشكل شبه كامل خلال عامين، والتي على أهميتها، فإنّ كلا من إثيوبيا والسودان تبالغ في تقدير كميتها وتعتبران أنّ مصر تستفيد منها بشكل كبير، وكانتا تقولان خلال المفاوضات إنّ مصر يصل إليها حالياً أكثر من 80 مليار متر مكعب، أي أكثر من الحصة المنصوص عليها في اتفاقية 1959 مع السودان بواقع 30 ملياراً. ويجادل الطرفان بأنّ ملء بحيرة سدّ النهضة سيخفض الحصة المصرية الفعلية إلى رقم يتراوح بين 52 و55 مليار متر مكعب، شاملة بواقي الفيضان، مقابل ارتفاع نصيب الخرطوم إلى ما يتراوح بين 18 و20 مليار متر مكعب، بدلاً من 8 مليارات كان منصوصاً عليها في اتفاقية 1959.

كما كان هناك اتفاق فني خلال المفاوضات بين الخرطوم وأديس أبابا على ضرورة إبقاء منسوب المياه في بحيرة سدّ النهضة أعلى من 595 متراً فوق سطح البحر، لتستمر قدرة السدّ على إنتاج الكهرباء، بينما ترى مصر أنّ هذا الأمر غير عادل إذا انخفض مقياس المياه في بحيرة ناصر عن 165 أو 170 متراً. وكانت واشنطن ترى معقولية ووجاهة في الاعتراض المصري في هذا الصدد، بينما الطرفان الآخران لا يرغبان في الربط بين مؤشرات القياس في سدّ النهضة والسدّ العالي.

وأرسلت مصر مطلع الشهر الحالي خطاباً لمجلس الأمن بلهجة لا تخلو من الرجاء لاتخاذ ما يلزم لاستئناف مفاوضات ملء وتشغيل السدّ، وتضمن وصف الخطر الاستراتيجي الذي قد تشهده المنطقة جراء الممارسات الإثيوبية بأنه "تطور محتمل"، وهو الأمر الذي يستحيل أن يصاحبه -بحسب مراقبين- تحضير لتحرك عسكري مصري، إذ إنّ ذلك سيكون بالتأكيد غير مرغوب به من القوى العظمى ولا مرحباً به في المنظومة الأممية.

وتزعم إثيوبيا أنّ مصر ليس لها الحق في أن تتدخّل مع أديس أبابا في كيفية إدارة السدّ إلا بعد الوصول لمستوى التخزين الذي يؤثر فعلياً على حصتها من المياه. علماً بأنّ جميع توربينات السدّ ستكون جاهزة للعمل عند اكتمال تخزين كمية 18.4 مليار متر مكعب، مما سيؤدي إلى تناقص منسوب المياه في بحيرة ناصر جنوب السدّ العالي بشكل كبير، خصوصاً إذا انخفض منسوب الفيضان في العامين المقبلين ليقل عن مستوى 170 متراً، مما يعني خسارة 12 ألف فدان من الأراضي القابلة للزراعة في الدلتا والصعيد كمرحلة أولى، من إجمالي 200 ألف فدان تتوقع وزارة الموارد المائية والري المصرية خروجها نتيجة المدة الإجمالية للملء.

وفي إطار هذا التعامل الإثيوبي التصعيدي في قضية سدّ النهضة، سبق وكشف مصدر إثيوبي تابع لحزب "جبهة تحرير تجراي"، المنافس الأبرز لحزب رئيس الوزراء أبي أحمد في الانتخابات المقبلة، لـ"العربي الجديد"، أنّ جيش بلاده نفّذ هذا الشهر مرحلة أساسية من مراحل نشر منظومات دفاع جوي متطورة حول سدّ النهضة، استعداداً لأي هجوم مصري محتمل. ولفت إلى أنّ بلاده حصلت على المنظومات الجديدة من دول عدة، أبرزها روسيا، مشيراً إلى أنه تمّ تجريبها جميعاً في مناسبات عدة مطلع العام الحالي، قبل نقلها إلى ولاية بني شنقول التي يقع فيها السدّ. كما أنّ بعض المنظومات تم إدخال تعديلات عليها بواسطة الشركة العسكرية للمعادن والهندسة (ميتيك) التابعة للجيش، والتي أجرى أبي أحمد تعديلات واسعة على هيكلها الإداري منذ صعوده للسلطة لتحسين جودة عملها، علماً بأنها كانت تشارك سابقاً في عمليات إنشاء أجزاء من سدّ النهضة.

المساهمون