رسمت الأمم المتحدة، في تقريرٍ جديد صدر عن لجنة التحقيق الدولية المستقلة حول سورية، صورة قاتمة لمجمل الأوضاع في هذا البلد، محذرة من تفجّر الأوضاع مجدداً، والعودة إلى القتال بين أطراف الصراع مرة أخرى، ما يؤكد أن حلّاً سياسياً للأزمة السورية لا يزال بعيد المنال، في ظلّ تباين الرؤى بين الدول الفاعلة في المسألة السورية.
سورية على صفيح ساخن
وحذّرت الأمم المتحدة في التقرير المؤلف من 50 صفحة، من تجدد القتال بشكل واسع النطاق في سورية، مشيرة إلى أن "الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الأساسية والقانون الإنساني" ازدادت في جميع أنحاء هذا البلد خلال الأشهر الستة الماضية.
وأشار التقرير إلى اندلاع قتال في شمال شرقي سورية وشمال غربيها، تسبب في سقوط عشرات القتلى من المدنيين، وحدّ من إمدادات الغذاء والماء. وفي المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، وثّقت اللجنة مقتل قادة سابقين للمعارضة، والعديد من مداهمات المنازل، واستمرار التعذيب وسوء المعاملة في مراكز الاحتجاز.
وفي السياق، قال رئيس لجنة التحقيق بشأن سورية التابعة للأمم المتحدة، باولو سيرجيو بينيرو، للصحافيين، أول من أمس الأربعاء في جنيف: "لا تستطيع سورية تحمّل العودة إلى القتال على نطاق أوسع، لكن هذا هو ما قد تتجه إليه". وأضاف: "كان لدينا اعتقاد في وقت ما أن الحرب انتهت تماماً في سورية"، لكن الانتهاكات الموثقة في التقرير تثبت عكس ذلك.
لا تستطيع سورية تحمّل العودة للقتال على نطاق أوسع
وكانت العمليات العسكرية واسعة النطاق في سورية قد توقفت في مارس/آذار 2020 في أعقاب اتفاق روسي - تركي أدى إلى تجميد أي تحرك عسكري على الأرض من قبل قوات النظام أو من قبل فصائل المعارضة السورية في شمال غربي سورية، بعد تقدم واسع لقوات النظام في أرياف حماة وإدلب وحلب.
ولكن عمليات القصف الجوي من قبل الطيران الروسي لم تتوقف منذ ذلك الحين، حيث قتل وأصيب المئات من المدنيين جرّاء غارات المقاتلات الروسية.
آخر الاستهدافات الروسية حصلت قبل أسبوع، حين قتل 7 مدنيين، بينهم طفل ووالده، وأصيب 13 آخرون، بقصف استهدف محيط بلدة حفسرجة وبلدة الغفر ومناطق زراعية مفتوحة في غربي إدلب بالشمال الغربي السوري.
وفي الجنوب السوري، لا تزال الفوضى الأمنية هي السائدة في محافظة درعا، على الرغم من اتفاقات "المصالحة" التي جرت أواخر العام الماضي. ومنذ اتفاق التهدئة في عام 2018، قتل وأصيب المئات من المدنيين والعسكريين السابقين في فصائل المعارضة، في درعا، آخرهم القيادي جلال الزعبي، الملقب "جلال الفريم"، جرّاء استهدافه من قبل مجهولين في بلدة المسيفرة شرقي درعا.
كما لا يزال تنظيم "داعش" يشنّ هجمات واسعة النطاق في البادية السورية وفي ريف دير الزور الشرقي الخاضع لـ"قوات سورية الديمقراطية" (قسد) التي تشتبك بين وقت وآخر مع فصائل المعارضة السورية في ريفي الرقة والحسكة شرقي نهر الفرات، وفي ريف حلب الشمالي غربي النهر.
ووفق تقرير الأمم المتحدة، فقد شنّ الطيران الإسرائيلي أيضاً أكثر من 12 غارة في أنحاء سورية في الأشهر الستة الأولى من عام 2022، من بينها هجوم على مطار دمشق الدولي، أدى إلى توقفه عن العمل لأسبوعين تقريباً، وهجوم آخر على مطار حلب في شمال البلاد أخرجه عن الخدمة.
الحاج علي: كل الاحتمالات واردة خصوصاً في الجنوب
كل الاحتمالات واردة
لكن اللواء محمد الحاج علي (منشق عن قوات النظام) يستبعد في حديث مع "العربي الجديد"، أن تنفجر الأوضاع مجدداً في سورية "في المدى المنظور". ويقول الحاج علي: "لا شيء على الأرض يدل على إمكانية تجدد القتال في نطاق واسع"، مقرّاً في الوقت ذاته بأن "الأوضاع في سورية كلّها على صفيح ساخن".
ويعتبر الحاج علي أن "كل الاحتمالات واردة، وخصوصاً في جنوب سورية وفي شمالها وشمالها الغربي". ويعرب عن اعتقاده بأن مناطق النظام يمكن أن تشهد انفجاراً "نتيجة الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يعاني منها الخاضعون لسلطته، لكن لا يمكن التكهن بموعد معيّن لتفجر الأوضاع مرة جديدة".
بدوره، يرى المحلل السياسي ياسين جمول، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "أسباب انفجار الوضع في سورية قائمة وكثيرة، لكننا لا نستطيع إنكار أن الكلمة النهائية اليوم في سورية هي للفاعلين الدوليين الكبار، وليس المحليين، سواء في مناطق سيطرة النظام أو مناطق المعارضة".
ويشير جمول إلى أنه "على الرغم من تنسيق المصالح بين الأطراف الفاعلة، فهي تختلف على حصتها من الكعكة السورية، ما قد يكون سبباً للاحتكاك أو التطور للمواجهة عبر الأذرع المحلية".
ويعتبر المحلل السياسي أن "الوضع الاقتصادي المتدهور يزيد فرص تجدد الاشتباكات". ويرى أن "لا النظام ولا حلفاؤه قادرون على تغطية مليشياته، ومع الأسف فالجيش الوطني السوري (تابع للمعارضة في شمال البلاد) بحالة سيئة وقد تسوء أكثر مع محدودية الرواتب وضعفها". وهذه العوامل، برأيه، "مؤثرة في التحريض على المواجهة".
وعلى الرغم من قتامة المشهد، تتواصل حراكات سياسية، لا يضعها متابعون في أكثر من خانة توجيه الرسائل بين الدول الفاعلة في الملف، دون أن يفضي ذلك إلى تقدم ملموس بالعملية السياسية. وفي هذا السياق، التقى نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، الأربعاء، في موسكو، وفد معارضين سوريين ينتمون إلى منصّات سياسية خارج ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية.
وذكرت الخارجية الروسية أنه "جرى تبادل معمق لوجهات النظر حول الوضع في سورية وما حولها، مع التركيز على مهام تعزيز تسوية شاملة في سورية على أساس قرار مجلس الأمن رقم 2254".
وضمّ الوفد ممثلاً عن هيئة التنسيق الوطنية التي يُنظر اليها باعتبارها ممثلة لمعارضة الداخل السوري، وممثلاً عن "مجلس سورية الديمقراطية" (الجناح السياسي لـ"قسد")، إضافة إلى ممثل لمنصة موسكو التي تتبنى الرؤية الروسية للحل، وشخصيات من تيارات سياسية أخرى.
ويضع المحلل السياسي أحمد القربي، في حديث مع "العربي الجديد"، هذه الزيارة "في سياق الردّ الروسي على اجتماع اللجنة المصغرة حول سورية أخيراً، والذي حضره الائتلاف الوطني السوري"، مقلّلاً من أهميتها، ومؤكداً أن "شيئاً لم يتغير حتى الآن على مسار الحلّ السياسي في سورية والمرتبط بمصالح الدول الفاعلة التي لم تتفق حتى اللحظة حول هذا الحل". وبرأيه، فإن الزيارة "تأتي في سياق الرسائل السياسية لا أكثر".