5 سنوات على المحاولة الانقلابية بتركيا: تحولات بالجملة

15 يوليو 2021
خلال الاحتفال بفشل الانقلاب، إسطنبول 2019 (أحمد بولات/الأناضول)
+ الخط -

محاولة الانقلاب في تركيا مساء 15 يوليو/تموز 2016 فاجأت السلطة والمعارضة معاً. صحيح أنها لم تكن الأولى من نوعها في تركيا التي عاشت منذ تأسيسها في العام 1923 أربعة انقلابات في أعوام 1960، و1971 و1980، و1997، ولطالما اتسمت علاقة العسكر بالسياسيين بالتوتر فيها، إلا أنّ ما جرى في 2016 كان يختلف عن بقية الانقلابات، خصوصاً بعدما شاركت فيه قطاعات عديدة من القوات المسلحة، وشاهد العالم تطوراته لحظة بلحظة على شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي. وساهمت الهبّة الشعبية والسياسية الرافضة للانقلاب، نظراً للحساسية التي تشكلها الانقلابات بالنسبة للشعب التركي الذي خبر لعقود معنى القمع وقتل القوى المدنية، في إسقاط المحاولة، فضلاً عن استمرار التظاهر لأيام طويلة بعد ذلك، لمنع حصول أي محاولات تمرد جديدة.
وشكّل فشل اغتيال الرئيس رجب طيب أردوغان، بحسب خطة الانقلاب حينها، ووصوله من أنقرة إلى إسطنبول والتفاف أنصاره حوله، فضلاً عن المواقف السياسية التي أجمعت على رفض أي محاولة انقلابية، عاملاً ساعد بشكل كبير الحكومة على استعادة زمام الأمور صباح اليوم التالي، لتشرع في ملاحقة المشاركين في المحاولة الانقلابية.

وزير الداخلية التركي: اعتقال 312 ألفاً من جماعة "الخدمة" منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة

ومنذ الساعات الأولى للمحاولة الفاشلة، اتجهت أصابع الاتهام الرسمية إلى جماعة "الخدمة" المصنفة في تركيا إرهابية، والتي يتزعمها الداعية فتح الله غولن، خصوصاً بعدما تصاعد الخلاف بين الجماعة وحزب "العدالة والتنمية" بزعامة أردوغان. نفت الجماعة ضلوعها بأي محاولة انقلابية، ولكن السلطة تقول إن القائمين على تنفيذ المحاولة الانقلابية هم من "الخدمة"، وسمّت في هذا السياق عادل أوكسوز المقرب من غولن واتهمته بأنه الرجل الثاني في المخطط الانقلابي بعد غولن، وبأنه أدار العمليات على الأرض وقام بالتنسيق بين غولن وقيادات بالجيش للانقلاب، والإشراف عليها من قاعدة أكنجي الجوية جنوبي أنقرة. أما غولن المقيم في الولايات المتحدة، فقد دعا أنصاره لـ"الصبر إزاء ما يجري في البلاد من ملاحقات بحقهم"، في كلمة مصورة نشرت في وقت لاحق.

استهل "العدالة والتنمية" الحكم منذ فوزه بالانتخابات في العام 2002، بالتحالف مع الجماعة المتغلغلة بمؤسسات الدولة وخاصة الجيش والقضاء. ولكن مع مرور السنوات وقع الخلاف بين الطرفين. اتُّهمت الجماعة بأنها عمدت إلى تلفيق ملفات أمنية بحق أبناء الوزراء، وحاولت التحقيق مع المسؤولين المقربين من أردوغان وأبرزهم رئيس الاستخبارات هاكان فيدان، بداية عام 2010 بقضية تتعلق بحزب العمال الكردستاني، فضلاً عن تسخير الآلة الإعلامية للنيل من حكومة أردوغان. وعلى الرغم من ذلك، تمكن "العدالة والتنمية" من الفوز بالانتخابات اللاحقة (2011 و2015)، لتستكمل حكومته "عملية تطهير" المؤسسات من أتباع الجماعة. وقبيل شهر من اجتماع لمجلس الشورى العسكري، والذي كان ينتظر فيه طرد ضباط تابعين لجماعة "الخدمة" من الجيش، حصلت المحاولة الانقلابية.

شكلت الاتهامات للجماعة بمحاولة تنفيذ الانقلاب، النقطة التي استغلها أردوغان للشروع بعملية واسعة لتطهير مؤسسات الدولة من عناصر "الخدمة"، عبر استهداف مئات الآلاف بالسجن أو الطرد من وظائفهم، لتبدأ محاكمات بحق البعض لا تزال مستمرة إلى اليوم. فقد أعلن وزير الداخلية، سليمان صويلو، أمس الأربعاء، عن تنفيذ القوى الأمنية في البلاد 135 ألفاً و916 عملية أمنية استهدفت جماعة "الخدمة" منذ 2016. وأفاد خلال كلمة له في إسطنبول، بأن "العمليات الأمنية المنفذة ضد جماعة الخدمة، أفضت إلى اعتقال 312 ألفاً و121 شخصاً".

وكان صويلو قال في تصريح له قبل أشهر، إن وزارة الداخلية نفذت منذ المحاولة الانقلابية أكثر من 99 ألف عملية أمنية قادت لتوقيف قرابة 283 ألف شخص متهمين بالانتماء لجماعة "الخدمة"، سجن منهم قرابة 95 ألف شخص، فيما لا يزال 26 ألفاً من هؤلاء قيد الاعتقال إلى الآن. في حين لا يزال أكثر من 25 ألف شخص على قوائم المطلوبين، وجار البحث عنهم. كذلك، شملت عمليات الطرد ما مجموعه قرابة 498 ألفاً، بينما تمكنت نسب قليلة من هؤلاء من تبرئة أنفسهم من الانتماء للجماعة، والعودة إلى وظائفهم، من دون الإعلان عن أرقام رسمية. علماً بأنه كان أُعلن أن الانقلاب أسفر عن مقتل 237 شخصاً وجرح 2191 شخصاً ما بين مدني وعسكري.

أدت السياسة الداخلية لانشقاقات في حزب "العدالة والتنمية"

وكان أردوغان فرض حالة الطوارئ بعد الانقلاب، واستخدم صلاحياته بإصدار قرارات طرد وفصل وعزل وإجراء تعيينات جديدة، وإغلاق مؤسسات ووسائل إعلام تابعة للجماعة. وهذه الصلاحيات كانت توفّر لأردوغان سهولة وسرعة في اتخاذ الإجراءات بعيداً عن البيروقراطية والروتين الإداري، وهو ما ساهم بالقضاء على وجود الجماعة في مؤسسات الدولة، وإنهاء وجودها في تركيا بشكل عام، ليهرب عناصرها إلى خارج البلاد.

وفضلاً عن هذا المشهد، أسفر الانقلاب عن تغيير في الخطط الداخلية والخارجية لدى أردوغان، إذ استغل الحادثة للتحالف مع حزب "الحركة القومية" اليميني المتطرف من أجل تغيير نظام الحكم في البلاد من برلماني إلى رئاسي، ليصبح الحكم أكثر مركزية وتتجمع الصلاحيات بيده. وبالفعل، جرت التعديلات الدستورية عام 2017 ومن ثم انتخابات مبكرة عام 2018 فاز فيها أردوغان بولاية رئاسية جديدة وبسلطات معززة. لكن ذلك ساهم في تعزيز الاستقطاب الداخلي، مع اتهام أي صوت شديد المعارضة بالعلاقة مع جماعة "الخدمة"، واتباع أساليب الأخيرة، ما أخاف المعارضة وأثار انتقادات من قبل المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، فضلاً عن مواصلة حملات الاعتقال والطرد من مؤسسات الدولة، والمحاكمات والاعتقالات اليومية التي تجري.

وأدت السياسة الداخلية لانشقاقات في حزب "العدالة والتنمية"، تمثلت بتأسيس قادة من الأخير أحزاباً جديدة؛ أبرزهم رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو الذي أسس حزب "المستقبل"، ونائب رئيس الوزراء السابق علي باباجان، الذي أسس حزب "الديمقراطية والتقدم".

وعلى الصعيد الخارجي، تتهم الحكومة بين فترة وأخرى أطرافاً خارجية بدعم الانقلابيين. وفي هذا السياق، قال وزير الداخلية سليمان صويلو في فبراير/شباط الماضي، إنه "ليست فقط جماعة الخدمة تقف خلف المحاولة الانقلابية، بل أيضاً الولايات المتحدة الأميركية"، وهو ما استدعى رداً من وزارة الخارجية الأميركية التي نفت صحة اتهامات صويلو. 

تتهم الحكومة بين فترة وأخرى أطرافاً خارجية بدعم الانقلابيين

فبعد قرابة شهر ونصف الشهر من المحاولة الانقلابية، انتقل أردوغان للهجوم على الصعيد الخارجي، وأعلن البدء بتنفيذ عملية "درع الفرات" في سورية للقضاء على خطر تنظيم "داعش" وذلك في 26 أغسطس/آب من العام 2016. وتبعت ذلك عمليات تركية أخرى في سورية مثل "غصن الزيتون" و"نبع السلام"، فضلاً عن عمليات في شمال العراق ضد حزب "العمال الكردستاني"، ثمّ انتقل في العامين الأخيرين إلى التدخل في ليبيا وأذربيجان، إلى جانب الشروع بعمليات تنقيب عن النفط والغاز في شرق البحر المتوسط، ما أدى إلى خلافات مع عدد كبير من الدول.

ومع تحقيق الأهداف الداخلية، واقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية في العام 2023، وإظهار نتائج استطلاعات الرأي تراجعاً في أصوات التحالف الجمهوري الحاكم (بين حزبي "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية")، انتهج أردوغان سياسة أكثر هدوءاً على الصعيد الداخلي، بإجراء حزمة إصلاحات حقوقية وقضائية واقتصادية، وأكثر اعتدالاً على الصعيد الخارجي عبر إيلاء مسألة الحوار مع الغرب ودول الجوار أهمية، لتخفيف الاحتقان الداخلي والخارجي.

في السياق، قال أستاذ العلاقات الدولية في جامعة قطر، الدكتور علي باكير، في حديث مع "العربي الجديد"، عن المحاولة الانقلابية، إنه "بغض النظر عن أن الانقلابات لا تأتي بالخير للصالح العام والدولة، فإن الانقلاب في تركيا لو نجح، كان سيؤدي إلى تسريع المسار السلبي الناجم عن الاستقطاب السياسي ومحاولات التدخل الخارجية، ما يؤدي لحالة من الانهيار السياسي والاقتصادي وشلّ قوى البلاد الحية، وهذا الشيء خبرته تركيا في العقود الماضية، خلال 4 انقلابات أحدها كان دموياً (1980). وبالتالي هناك حساسية عالية لدى الشعب تجاه الانقلاب، ولو نجحت المحاولة الانقلابية عام 2016، كانت ستؤدي إلى تحول على صعيد السياسة الخارجية ومسألة الاعتماد على الذات. فالانقلابات تاريخياً تجعل الدول مرتبطة خارجياً حسب المحور الدولي الذي تتبع له، وبالتالي كان هناك توقع، لو نجح الانقلاب، بأن تتخلى تركيا عن مشاريعها الطموحة وسياستها الخارجية المستقلة".

توجه انتقادات للحكومة بأنها عملت على استغلال المحاولة الانقلابية من أجل ممارسة مزيد من التضييق على المعارضة

وأضاف باكير أن "الفضل الأول والأخير في فشل الانقلاب، يعود للشعب الذي تدخل مباشرة من دون إيعاز من أحد، بدافع محاولة الحفاظ على مكتسباته التي حققها خلال العقدين الماضيين وعدم التفريط والتخلي عن خياراته التي عبّر عنها في صندوق الانتخابات، فضلاً عن منع حصول انقلابات جديدة، خاصة أنها تشل قدرات البلاد سياسياً وعسكرياً واقتصادياً". 

من ناحيته، قال الصحافي التركي، يوسف سعيد أوغلو، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "المحاولة الانقلابية كانت مرفوضة شعبياً أياً كان في الحكم؛ سواء حزب العدالة والتنمية أو حزب آخر، لأن الشعب خبر نتائج الانقلابات السابقة التي أدت إلى القمع وتقييد الحريات وفرض قوانين ودساتير من قبل العسكر. فمن الناحية المبدئية، كان هناك رفض شعبي للانقلاب بغض النظر عن توجهات المواطنين من محافظين وعلمانيين وقوى مختلفة، ورفض لأي انقلاب أو وسيلة تعمل على قلب حكم مشروع مكتسب عبر صناديق الاقتراع". وأضاف: "هناك انتقادات داخلية وخارجية توجه للحكومة بأنها عملت على استغلال المحاولة الانقلابية من أجل ممارسة مزيد من التضييق على المعارضة، وكان يمكن للحكومة والرئيس أردوغان استغلال الحادثة بشكل جيّد من أجل تخفيف حدة الاحتقان الداخلي، وهو ما كان سيقود لمزيد من التوحد على صعيد الجبهة الداخلية، ودعم الحكومة في سياساتها الخارجية، خاصة أنّ الانتخابات شفافة ونزيهة وتعترف بها جميع الأطراف والقوى السياسية التركية. أعتقد أن الحكومة أضاعت هذه الفرصة ولم تحسن استغلالها".

المساهمون