يسير السلام في كولومبيا، الموقّع في إطار اتفاق بين الحكومة والقوات المسلحة الثورية الكولومبية "فارك" قبل خمسة أعوام، ببطء. وعلى بعد عشرة أعوام لا تزال متبقية في إطار المدة التي حدّدها الاتفاق لإتمام وتنفيذ بنوده، لا يبدو المشهد في هذا البلد، الواقع في شمال غرب أميركا الجنوبية، والذي أنهى حربه الطويلة في عهد الرئيس السابق خوان مانويل سانتوس، الحائز على "نوبل السلام" لتحقيقه هذا الإنجاز، بحجم التفاؤل الذي تروج له الأمم المتحدة، حين تتحدث عن اختراقات مهمة حقّقها الاتفاق، تناقضها أرقام صادرة عنها وعن منظمات دولية حقوقية وإنسانية، غير مطمئنة كثيراً. وإذا كان سانتوس وآخر زعماء "فارك"، رودريغو لوندونو (الملقب بـ"تيموشنكو")، قد وقّعا على الاتفاق بقلمين مصنوعين من رصاص أعيد تدويره، على أن يكون "السلاح الوحيد" الذي سيستخدم في كولومبيا بعد الاتفاق هو "الكلمات"، فإن المعارك التي لا تزال تدور بين المنشقين عن "فارك" الرافضين لاتفاق السلام والقوات الحكومية، تشي عكس ذلك، خصوصاً في الأرياف التي تحملت وتتحمل العبء الأكبر من الحرب. وإذا كانت الحرب قد اندلعت قبل أكثر من خمسة عقود، خصوصاً بسبب الأرض، فإن أي إصلاح في البلاد لا يزال بعيداً عن التوزيع العادل للأراضي الزراعية، وللثروات، ما يجعل حجج الجماعات المقاتلة، ومنها تجار ومهربو المخدرات، قوية. ولا تسمح إعلانات الرئيس الحالي إيفان دوكي، الذي يواصل التأكيد على استكمال إنجازات السلام، بدورها، بالكثير من التفاؤل، مع مواصلة عمليات الاغتيال والتصفية التي تطاول مقاتلين سابقين وناشطين وغيرهم، علماً أن البلاد تشهد موجة نزوح داخلية بسبب المعارك، تضعها في المرتبة الثالثة فقط في العالم في هذا الإطار، بعد الكونغو الديمقراطية وسورية، وقد ارتفعت بنسبة 167 في المائة خلال العام الحالي مقارنة بالعام الماضي. وبلغ عدد النازحين منذ توقيع الاتفاق 400 ألف، فيما سجل خلال العام الحالي نزوح نحو 110 آلاف شخص بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
تشن الحكومة حملات عسكرية ضد متمردين ماركسيين آخرين، منهم مجموعات انشقت عن "فارك" وترفض اتفاق السلام
ووصل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، مساء أول من أمس الإثنين، إلى العاصمة الكولومبية بوغوتا، للاحتفال بالذكرى، وهي أول زيارة له "على الأرض" منذ تفشي كورونا. وقال غوتيريس لدى وصوله إلى مطار بوغوتا، إن "كولومبيا تعطي اليوم مثالاً مهماً جداً للعالم حول التمسك بالسلام. في عالم نشهد فيه للأسف نزاعات كثيرة، من الأهمية بمكان أن نزور بلداً يُبنى فيه السلام". وتوجه غوتيريس، أمس الثلاثاء، برفقة الرئيس الكولومبي إيفان دوكي، إلى مقاطعة أنتيوكيا، في شمال غرب البلاد، لزيارة موقع لإعادة دمج محاربين سابقين في "فارك" في منطقة دابيبا، حيث التقى القائد السابق لـ"فارك"، تيموشنكو، على أن يشارك اليوم الأربعاء في العاصمة، في مراسم رسمية بحضور دوكي وقادة سابقين من "فارك"، في "الهيئة الخاصة من أجل السلام" التي استحدثت بموجب اتفاقية السلام، وهي مكلفة محاكمة مرتكبي جرائم متعددة خلال الحرب. وكتب رئيس بعثة الأمم المتحدة في كولومبيا المكلف السهر على تطبيق الاتفاقية، كارلوس رويس ماسيو، في تغريدة على "تويتر"، أن "هذه الزيارة توجه رسالة ليستمر هذا البلد على درب السلام والمصالحة".
وكان ماسيو قد اعتبر في إحاطة إلى مجلس الأمن الدولي، في يوليو/تموز الماضي، أن مسار السلام في كولومبيا "يقف اليوم أمام منعطف حسّاس"، لافتاً إلى أن "عملية المصالحة حقّقت إنجازاً جديداً في شهر إبريل/نيسان 2021، حين أقر مقاتلون سابقون في فارك، بمسؤوليتهم عن جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بما فيها اختطاف رهائن". وكانت المحكمة الخاصة بالسلام في كولومبيا (آلية العدالة الانتقالية في البلاد)، قد أصدرت في يناير/كانون الثاني الماضي، لائحة اتهام بحق ثمانية قادة سابقين في "فارك" لارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، شملت خطف 21 ألف شخص، خلال النزاع المسلح الطويل في البلاد. كما دانت المحكمة 11 ضابطاً سابقاً ومدنياً واحداً، بجرم تنفيذ اغتيالات وإخفاء أشخاص خلال الحرب. كما أشاد ماسيو بعمليات الكشف عن مئات الجثث لضحايا سقطوا خلال الحرب، بمساعدة المتمردين السابقين ومليشيات مسلحة وعملاء للدولة. لكنه أكد أن الطريق نحو إتمام المصالحة وتفكيك البنية التي بنتها عقود من الحرب "ستأخذ بعض الوقت".
وكانت حكومة خوان مانويل سانتوس وزعيم "فارك" لوندونو قد وقّعا في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، في بوغوتا، على اتفاقية السلام معدلة، بعدما كانا وقّعا في 26 سبتمبر/أيلول من العام ذاته في شمال البلاد، على مسودة أولى نهائية للاتفاق، جاءت ثمرة مفاوضات استمرت سنوات ورعتها ودعمتها كوبا (التي كانت تدعم "فارك")، وأيضاً النرويج وتشيلي والأمم المتحدة والفاتيكان والولايات المتحدة، لكنها رُفضت بنسبة كبيرة من الشعب الذي صوّت عليها في استفتاء، وذلك بعدما اعتبرها تميل كثيراً لصالح المتمردين الماركسيين. ولم تعرض نسخة الاتفاق بعد التعديلات (275 صفحة) على الاستفتاء الشعبي، بل على البرلمان فقط الذي كان سانتوس يحظى فيه بغالبية كبيرة. ويعالج الاتفاق وقف النار وتعويضات الضحايا وتهريب المخدرات وإلقاء السلاح والإصلاح الزراعي والعدالة الانتقالية وإعادة الدمج. وبموجب الاتفاق، تخلى حتى اليوم حوالي 130 ألفا من عناصر "فارك" عن الكفاح المسلح، وعادوا إلى الحياة المدنية، مع نشوء أحزاب سياسية منبثقة منهم.
طاولت الاغتيالات منذ توقيع اتفاق السلام ألف شخص
لكن العنف لا يزال يتواصل في مناطق عدة من كولومبيا، حيث تشن الحكومة حملات عسكرية ضد متمردين ماركسيين آخرين، منهم مجموعات انشقت عن "فارك" بعد رفضها اتفاق السلام، وضد عصابات إجرام منظمة، ومهربي المخدرات، وحتى حركات يمينية متطرفة. وتعرض قادة سابقون من "فارك" تخلوا عن سلاحهم، وناشطون حقوقيون، وبيئيون، وزعماء مناطق، وضحايا عنف الجماعات المسلحة خلال الحرب، لاغتيالات طاولت أكثر من ألف شخص، منذ توقيع الاتفاق، وهو ما رأى فيه ماسيو "أخطر تهديد لاتفاق السلام"، في حديث أخير له لصحيفة "فاينانشال تايمز". وتحدثت الصحيفة عن "إحباط عام" من البطء الذي يسير فيه تنفيذ الاتفاق، إذ بحسب "معهد كروك لدراسات السلام الدولية" ومقره الولايات المتحدة، لم تنفذ الحكومة من الاتفاق حتى الآن سوى 29 في المائة. ورأى المعهد أنه من الطبيعي أن يتباطأ تنفيذ الاتفاق، مع الدخول في المسائل الأكثر جدية، لكنه نبّه إلى أن ذلك قد يستغرق 35 عاماً، علماً أنه منذ بداية العام الحالي، لم ينفذ سوى 2 في المائة من الاتفاق. لكن إيميليو أرشيلا، وهو مستشار دوكي للتهدئة والتوحيد، أكد للصحيفة أن الحكومة تسبق الجدول الزمني المحدد لتطبيق بعض البنود، وأن مسار السلام يسير بشكل جيّد إذا ما قورن بمسارات سلام أخرى حول العالم.
من جهته، لا يزال اليمين الكولومبي، ممتعضاً من اتفاق السلام، الذي منح برأيه الكثير لمقاتلي "فارك"، لا سيما المقاعد "المهداة" لهم في البرلمان، وعدم محاكمتهم في محاكم جنائية. وغير ذلك، لا تزال عملية الإصلاح الزراعي، لاستبدال زراعة الكوكايين، وتسجيل أراض غير مسجلة باسم الفلاحين، تسير ببطء أيضاً، حيث دخلت مئات الآلاف من العائلات في برامج حكومية لاستبدال الزراعة فيها، من دون أن تلقى دعماً حتى الآن. وينتظر اتفاق السلام الكولومبي العام المقبل، الذي يشهد انتخابات رئاسية، من شأن نتائجها أن ترسم ملامح المرحلة المقبلة، التي سيسير عليها الاتفاق.
(العربي الجديد)