تصادف اليوم الذكرى السادسة لسقوط العاصمة اليمنية صنعاء في قبضة المليشيا الحوثية وبدء مسلسل انهيار الدولة. لكن المآلات التي أحدثها زلزل 21 سبتمبر/ أيلول 2014 المصنف كـ"ثورة شعبية" في قاموس الحوثيين، تجعل الحقبة العصيبة التي عاصرها اليمنيون منذ ذلك التاريخ فقط، أشبه بعقدين من الزمن أو أكثر. وبعد 6 سنوات على اجتياح صنعاء، لا يزال العنف سيد الموقف في مناطق يمنية عدة، أبرزها مأرب والجوف، فالجماعة التي تحكم عاصمة البلاد منفردة، بعد اجتياحها تحت لافتة تحسين الخدمات، تحتفل هذه الأيام بما تدعوه "2000 يوم من الصمود أمام التحالف السعودي الإماراتي"، وتواصل تعميم الخراب شرقاً، ملوّحة بالقدرة على القتال حتى 4 آلاف يوم. وفي مقابل الولع الحوثي بالإحصاء والتباهي بإدراج اليمن في موسوعة أرقام فلكية من ناحية أيام الصمود، أو محاربة 17 دولة وتشييد مئات المقابر، تنظر شريحة واسعة من اليمنيين إلى 21 سبتمبر على أنه أكبر انتكاسة مدوّية في التاريخ اليمني المعاصر، وتصنّفه كنكبة أثمرت تفشي الفصائل والمليشيات الحاكمة، وسقوط العديد من الضحايا منذ 6 سنوات، وتشرد الكثير داخل البلاد، وسط تهديد بمجاعة وشيكة.
بات يوم 21 سبتمبر تاريخاً لبدء عهد المليشيات في اليمن
ويحتفي الحوثيون بالمناسبة التي أشعلت حرباً بالوكالة بين أطراف إقليمية هي إيران والسعودية، بأنها ثورة أطاحت خصومهم من القوى العسكرية والقبلية التقليدية. وفي هذا اليوم من كل عام، تمنح السلطات الحوثية سكان المحافظات الخاضعة لسيطرتها إجازة رسمية، باعتباره عيداً وطنياً، لكن الحكومة المعترف بها دولياً، التي تشردت نحو عدن وبعدها الرياض منذ ذلك اليوم، تصف 21 سبتمبر بـ"اليوم المشؤوم وذكرى النكبة". عقب اجتياح صنعاء في سبتمبر 2014، أجبر الحوثيون، الرئيس عبد ربه منصور هادي، على تشكيل حكومة جديدة يشاركون فيها، بناءً على اتفاق أشرف عليه أول مبعوث للأمم المتحدة في اليمن، المغربي جمال بنعمر. ودفعت هشاشة مؤسسة الرئاسة، الحوثيين إلى المطالبة بمكاسب أكبر، أبرزها الشراكة في مؤسسات الدولة كافة، وتعيين أحد قيادييهم في منصب نائب رئيس الجمهورية، فضلاً عن دمج نحو 20 ألفاً من مقاتليهم في صفوف القوات المسلحة والأمن التي ابتلعتها بعد أشهر بالكامل. وبعد أن كانت أسعار الوقود هي الشعار الرئيسي لاجتياح صنعاء، بدأ الحوثيون بإشهار عناوين جديدة لمعاركهم، فأفصحوا عن نيّاتهم للسيطرة على منابع النفط في مأرب، تحت شعار محاربة من وصفوهم بـ"الدواعش"، ثم تمددوا غرباً وصولاً نحو الحديدة على شواطئ البحر الأحمر. لكن الاستقالة المفاجئة لهادي وحكومة خالد بحاح في 19 يناير/ كانون الثاني 2015، ثم انتقاله إلى عدن في فبراير/ شباط من العام عينه، أربكا مخططات الحوثيين بالإبقاء عليه كواجهة شرعية، وهو ما دفعهم إلى ملاحقته صوب عدن، قبل خضوع البلد لوصاية إقليمية تحت مسمى التحالف الداعم لشرعية هادي. خاض الحوثيون بعد ذلك معارك سهلة في اجتياح المدن اليمنية شمالاً وجنوباً، مستفيدين من تسهيلات قدّمها الرئيس السابق علي عبدالله صالح (الذي قُتل على أيديهم في ديسمبر/ كانون الأول 2017). ووفقاً لنائب الرئيس، علي محسن الأحمر، فإنه لم يدافع عن صنعاء في وجه الزحف الحوثي سوى معسكر السبعين الذي قدّم 294 قتيلاً، وذلك في تصريحات أطلقها قبل 3 أعوام، بعد أن ترك من أسماهم "الجمهوريين"، الجمهورية والثورة اليمنية فريسة للحوثي، في إشارة إلى تخلي المؤسسات العسكرية والأمنية كافة عن واجباتها.
تفتّت الدولة وطمس الهوية اليمنية
بدا الحوثيون وكأنهم قد اختنقوا في انقلاب غير مدروس، خصوصاً بعد اعتكاف هادي في صنعاء ثم هروبه، فلجأوا إلى إصدار قرارات عزل محافظين وتكليف موالين لهم، ونشروا عناصر "اللجان الثورية"، كمشرفين بصلاحيات واسعة على وزراء ومديرين عامين في مؤسسات الدولة. واستحدثوا مكاتب للتقاضي ورفع المظالم، يديرها مسؤولون أمنيون موالين لهم بعد تعطل المحاكم، ليتوّجوا مسلسل تفتيت الدولة بحلّ البرلمان المنتخب وتعليق العمل بالدستور. وعلى الرغم من العودة الشكلية للمؤسسات، بعد إشهار الحوثيين تحالفهم مع حزب صالح، إلا أنهم واصلوا استحواذهم على مصدر القرار، بتعيين المحسوبين عليها في هرم أجهزة الدولة التنفيذية والعسكرية، وألغوا إجازة السبت التي كانت قد أقرتها الحكومة السابقة، معيدين العمل بإجازة الخميس، فضلاً عن إقرار التقويم الهجري على رأس المعاملات الرسمية، وتوسيع الشرخ المجتمعي داخل اليمن ومنع توزيع العملة النقدية التي طبعتها الحكومة في مناطقهم.
جرعة تنشيطية لـ"القاعدة" وولادة "المجلس الانتقالي"
لم يكن ابتلاع الحوثيين مؤسسات الدولة النتيجة الوحيدة لاجتياح صنعاء، لكن انقلابهم على الدستور، وتوسعهم غرباً وجنوباً، منح تنظيم "القاعدة" جرعة تنشيطية، أعادت إليه الحياة بعد سنوات من التواري عن الأنظار. ووجد عناصر "القاعدة" المبررات الكافية للظهور العلني ومحاكاة انقلاب صنعاء، وذلك بالسيطرة على مدينة المكلا عاصمة حضرموت في إبريل/نيسان 2015، فحكموها عاماً كاملاً، فضلاً عن سيطرتهم على مدن وبلدات مختلفة في محافظات البيضاء وأبين وشبوة. ومع تصاعد الفرز الجهوي والطائفي بعد الانقلاب، اكتسب تنظيم "القاعدة" شرعية في نظر المجتمعات المحلية، خصوصاً في البيضاء التي لا يزال مهيمناً على مناطق فيها حتى الآن. وحظي التنظيم بالتفاف شعبي وقبلي، بعد انخراط العشرات في معسكرات تدريب تابعة له من أجل قتال الحوثيين. وفي مدن الجنوب، أغرت الانتصارات السهلة التي حققتها الحوثيون، قيادات انفصالية أطاحها هادي من مناصب حكومية مختلفة، بمحاكاة انقلاب صنعاء، وذلك بالإعلان عن فصيل تحت مسمى "المجلس الانتقالي الجنوبي"، سلّحته الإمارات. وأصبح هذا الفصيل، الرديف الأكبر للحوثيين، مع سيطرتهما كل بمفرده، على صنعاء وعلى عاصمة اليمن المؤقتة عدن. وهما يمتلكان معسكرات ضاربة وأسلحة ثقيلة تفوق قدرات الدولة، فضلاً عن حصولهما على أجهزة أمنية ووسائل إعلام خاصة، مدعومة إقليمياً من الإمارات وإيران. ووفقاً لما ذكر خبراء لـ"العربي الجديد"، فإن الجماعات الثلاث، الحوثيين و"القاعدة" و"المجلس الانتقالي الجنوبي"، تلتقي كحركات دينية خالصة، وبروز أي جماعة وتفوقها يشكّلان خطراً وجودياً على الباقين.
ضعف الرئيس يعزز الانقلابات
ساهم الرئيس اليمني هادي، بشكل أو بآخر، في تقوية الانقلاب الحوثي على الدولة. وخلافاً للتساهل والحياد المريب الذي أبداه تجاه الزحف الحوثي من صعدة وصولاً إلى مشارف صنعاء، تتفق مصادر عسكرية على أنه وجّه بتسليم عشرات القواعد العسكرية للحوثيين، نكاية بخصومه التقليديين القبليين في قبيلة حاشد وحزب "التجمع اليمني الإصلاح". وعلى الرغم من رفض الحوثيين بعد 21 سبتمبر تطبيق ما أسمي "اتفاق السلم والشراكة"، الذي نصّ على انسحابهم من صنعاء وتسليم السلاح الثقيل للدولة بمقابل إدراجهم في حكومة الشراكة، إلا أن هادي بدأ يشرعن الإجراءات الانقلابية بعد إصداره مرسوماً قضى بتعيين القيادي الحوثي صالح الصماد، مستشاراً له. وهو الرجل نفسه الذي كانت وسائل إعلام الجماعة تصفه بـ"الرئيس"، بعد اكتمال أركان الانقلاب وتأسيس المجلس السياسي الأعلى، وذلك قبل أن يُقتل بغارة جوية في الحديدة في منتصف إبريل 2018.
21 سبتمبر هو يوم سقوط النظام السياسي
وتفاوتت آراء الشارع اليمني حينها حول الموقف الغامض لهادي من الانقلاب، ففيما اعتبره طرف أنه "متواطئ" مع الحوثيين، برر آخرون موقفه بأنه كان ضحية لمؤامرة خارجية نفذتها دول إقليمية دون معرفته الكاملة بتفاصيلها. لكن تكرار السيناريو أخيراً في العاصمة المؤقتة عدن مع "المجلس الانتقالي" ومنحه الشرعية بتعيين محافظ لها من الموالين له، من دون تنفيذ باقي بنود اتفاق الرياض، عززا أكثر الرأي الثاني. في السياق، اعتبر الباحث عبد الناصر المودع، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن 21 سبتمبر عمل إجرامي أخرق سقطت فيه الدولة، وأن الأحداث اللاحقة كافة بمثابة "صدى" لذلك الزلزال وتفاصيل ليس إلا. وأضاف أن "21 سبتمبر هو يوم سقوط النظام السياسي، الذي شكّلته أربعة أحداث، هي 26 سبتمبر 1962 (الثورة اليمنية على حكم الإمامة)، 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 (ذكرى استقلال جنوب اليمن عن الاحتلال البريطاني)، 22 مايو/ أيار 1990 (يوم إعلان الوحدة بين الشمال والجنوب)، و11 فبراير 2011 (الثورة الشبابية). ففي 21 سبتمبر 2014 سقطت عملياً كل شعارات تلك الثورات وأهدافها، ودخل اليمن طوراً جديداً لا يشبه ما قبله: زمن حكم المليشيات". ورأى المودع أن "الطبقة السياسية التي حلت محل صالح كانت أكثر منه فساداً وأقل منه كفاءة، وكانت الطامة الكبرى حين ذهب جزء من تلك الطبقة وبالتحديد الرئيس (هادي)، الذي تنصل من القيام بدوره رئيساً انتقالياً، للبقاء في السلطة بأي ثمن، بما في ذلك التآمر على الدولة مع مليشيات الحوثي، التي وعدته بأنها ستقوي حكمه وتمدد له في الحكم".
خصوم وهميون وشرعية مفقودة
طوال السنوات الست من عمر الانقلاب، ابتكر الحوثيون عشرات اللافتات والعناوين غير الواقعية لمواصلة حروبهم، واستقطاب المزيد من المقاتلين، ما جعلهم قادرين على الاستمرارية بذات القوة حتى اليوم. وفيما برزت الولايات المتحدة وإسرائيل عدوين رئيسيين افتراضيين للحوثيين، استثمر الانقلاب الحوثي أبناء قبائل الشمال كخّزان بشري، تحت مسميات عدة، بدءاً من "القضاء على الظلم في قبيلة حاشد وآل الأحمر ومحاربة حزب الإصلاح بعمران"، وصولاً إلى "الدواعش والمنافقين والإرهابيين والمرتزقة والجنجويد وغيرهم".
الطبقة التي حلت محل صالح كانت أكثر منه فساداً وأقل منه كفاءة
وبذريعة هذه المعارك الوهمية، يرفض الحوثيون المقترحات الأممية منذ أواخر 2014 بتسليمهم السلاح الثقيل الذي استولوا عليه بعد الانقلاب، حتى إن زعيمهم عبد الملك الحوثي، قال في أول خطاباته عقب اجتياح صنعاء: "بماذا سنحارب العدو الخارجي إذا سلمنا السلاح؟ بالحجارة؟". ومع توجيه الاتهامات إليها بابتكار قوائم خصوم محدَّثة دورياً، من أجل تصفية منافسيها وابتلاع القبائل اليمنية لتركيعها فقط، تنفي مصادر موالية للحوثيين أن يكون هذا توجهها العام، وتقول إن مناطقها ما زالت تحتضن العشرات من القبائل ذات التوجهات السياسية المختلفة. في السياق، يذكر الحسن الجلال، وهو صحافي موالٍ لجماعة الحوثيين، أن الحوثيين يخوضون معركة كل اليمنيين، لا معاركهم الخاصة. وكانوا جادّين في عدم الاستفراد بالسلطة أو إقصاء أي مكون، ولكن "هناك حملة ممنهجة لشيطنتهم وتشويههم منذ اليوم الأول للعدوان السعودي الإماراتي". ويعتبر في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "21 سبتمبر، كانت الثورة الوحيدة بالتاريخ التي لم تنصب لخصومها المشانق ولم تزج بهم بالسجون، بل جلست معهم إلى طاولة واحدة، وحاورتهم ومدت يدها للسلم والشراكة. وحتى اليوم لا تزال صنعاء تحتضن الإصلاحي والمؤتمري والجنوبي والأنصاري (أنصار الله، الاسم الحركي للحوثيين)". وبخصوص المستقبل الوردي الذي رسمه الحوثيون للمجتمع اليمني والوعود بالرخاء والقضاء على الفساد بإعادة أسعار الوقود إلى ما كانت عليه، قبل تحول ذلك إلى أكبر أزمة إنسانية في العالم، يدافع الجلال عن أهدافهم بالقول: "إن الثورة وجدت نفسها في الأشهر الأولى أمام عدوان غاشم تقوده السعودية، ومن الظلم تحميلها كل ما حدث".