بدأت مؤشرات تغير جذري ولافت في العقيدة العسكرية للجيش الجزائري، تطفو على سطح المشهد، للتكيف مع التطورات الراهنة في المنطقة المحيطة بالجزائر، بعدما بات مسموحاً للرئيس الجزائري، وفق مسودة الدستور الجديد التي سيتم إقرارها في استفتاء عام خلال الشهرين المقبلين، بإرسال وحدات من الجيش خارج الحدود الجزائرية، سواء للمشاركة في عمليات حفظ السلام الأممية أو عمليات قتالية لإحلال السلام في دول الجوار، بعد ستة عقود لم يكن مسموحا خلالها للقوات الجزائرية بالقتال في الخارج.
وما زالت حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، هي آخر حرب شاركت فيها وحدات من الجيش الجزائري على الجبهة المصرية، لكن وبعد صياغة ثاني دستور للجزائر المستقلة عام 1976، تضمن منع أية مشاركة للجيش في عمليات قتالية خارج الحدود، ودخل الجيش الجزائري في صلب عقيدة دفاعية بحتة.
لكن التطورات التي شهدتها منطقة شمال أفريقيا ومنطقة الساحل في العقدين الأخيرين خاصة، وتضرر المصالح الاستراتيجية والعمق الأمني للجزائر في عدة دول كمالي والنيجر وليبيا وتونس أيضا، سواء بسبب وجود المجموعات المسلحة في منطقة الساحل أو قواعد عسكرية لدول إقليمية وغربية كما في مالي والنيجر، أو بسبب توترات وحروب أهلية كما هو الشأن في ليبيا، فرضت على القيادة السياسية والرئيس عبد المجيد تبون استغلال تعديل الدستور، لإدراج مواد تسمح بموجبها للجيش الجزائري وللمرة الأولى "بالمشاركة في عمليات حفظ السلام تحت رعاية الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية".
كما تضمن الدستور الجديد بنداً يتيح للجزائر المشاركة في عمليات إحلال واستعادة السلام في المنطقة في إطار اتفاقيات ثنائية مع الدول المعنية، وتنسحب كلمة "الدولة المعنية"، على الحكومات الشرعية المعترف بها دوليا، باقتراح من رئيس الجمهورية وبعد الحصول على موافقة البرلمان.
وبرزت في مالي وليبيا تحديداً الحاجة الماسة لمشاركة عسكرية جزائرية، سواء لإحلال السلام والمساعدة في تنفيذ الاتفاقيات الدولية أو التفاهمات المحلية، بما يعود أيضاً بالأمن على الحدود الجزائرية من جهة، أو دعم الحكومات المركزية لمواجهة توترات داخلية أو من صنع أطراف خارجية تدفع بدول الجوار الجزائري إلى تفاقم الأزمة الداخلية.
ومنذ هجوم الناتو على ليبيا عام 2011 وإسقاط حكم معمر القذافي، وهجوم التنظيمات المسلحة وسيطرتها على مدن شمال مالي في مارس 2012، ثم إطلاق فرنسا لعمليات عسكرية في شمال مالي وقرب الحدود مع الجزائر لملاحقة الإرهابيين، تصاعدت الأصوات السياسية ومن خبراء في الشؤون الاستراتيجية، اعتبروا أن استمرار الجيش الجزائري داخل مربع العقيدة الدفاعية، والتزام الجزائر بمبدأ عدم إرسال الجيش للقتال لدعم حكومات دول الجوار، والمساعدة في إحلال السلام واستعادة الأمن، كل ذلك فوت على الجزائر مصالح استراتيجية كبيرة وغيبها عن منطقتها الحيوية من جهة، ودفع هذه الدول إلى فتح الباب لقوى بعيدة للدخول إلى المنطقة.
وفي الفترة الأخيرة زاد القلق الجزائري، الرسمي والشعبي من التطورات الراهنة في ليبيا والتدخلات الأجنبية التي خلخلت الأمن في المنطقة وأثرت على أمن الحدود الجزائرية، وكذلك من المبادرة الفرنسية "مجموعة الخمس-ساحل" بزعم ملاحقة التنظيمات المسلحة، وهو ما دفع الرئيس الجزائري إلى تخصيص أول اجتماع لمجلس الأمن القومي عقد نهاية شهر يناير الماضي، للوضع في مالي وليبيا تحديدا.
ويعتقد أن تؤدي هذه الرخصة الدستورية الجديدة إلى تغير لافت في السياسة الإقليمية للجزائر، ومراجعة شاملة لمبادئ السياسة الخارجية للجزائر، والتي ظلت حبيسة داخل مربع عدم التدخل العسكري في دول المنطقة، بما يؤدي إلى تغير في موازين القوى في المنطقة من جهة، وتبدل أدوات تفعيل الموقف والثقل الجزائري في الدول التي تعيش توترات ونزاعات داخلية في منطقة الجوار، سواء لمقتضيات داخلية أو بدافع خارجي.
وإضافة إلى المتغيرات السياسية الداخلية والوضع الإقليمي، يعتقد متابعون للملف أن الوضع التسليحي الذي يوجد عليه الجيش الجزائري، والترسانة الثقيلة التي حصل عليها خلال السنوات الماضية، وكذا مستوى الكفاءة التدريبية للجنود والضباط، تدفع إلى اعتبار أن الجيش الجزائري استكمل التأمين الداخلي للبلاد، وبات مستعداً للمساهمة في الخارج، بما يخدم المصالح الأمنية والاستراتيجية للجزائر، خاصة وأن الجيش بصدد طي ملف الإرهاب الذي ظل يشغله منذ ما يقارب الثلاثة عقود.