في خطوة إضافية لتوسيع حضورها الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي وتسريع آلية اتخاذ القرارات في الملف السوري، عيّن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السفير الروسي لدى دمشق ألكسندر يفيموف مبعوثاً خاصاً له لتطوير العلاقات مع سورية. وفي حين بعث المنصب المستحدث الجديد تكهنات حول الدور المستقبلي لروسيا في سورية، معيداً التذكير بتعيين السفير الأميركي بول بريمر رئيساً للإدارة المدنية للإشراف على إعادة إعمار العراق في 2003 وبات عملياً حاكم العراق الفعلي، رفضت مصادر روسية هذا الطرح "جملة وتفصيلاً". وشدّدت على "وجود فوارق جوهرية بين الحالتين السورية والعراقية ودور كل من واشنطن وموسكو".
التعيين المفاجئ وغير المسبوق في الأعراف الدبلوماسية، جاء بعد توتر نادر في العلاقات بين البلدين على خلفية تقارير إعلامية روسية حادة اللهجة، تحدثت عن عدم رضى موسكو عن الفساد المستشري في النظام وعدم قدرة بشار الأسد "الضعيف" على الحدّ منه، والردود السورية الغاضبة التي توقفت عقب تدخل السفير المباشر بالتأكيد في حوار مع صحيفة "الوطن" التابعة للنظام على متانة العلاقات بين الطرفين. وشدّد يفيموف في حينها على أن "الأخبار المزيفة والكاذبة حول روسيا وسورية لا يستفيد منها إلا خصوم البلدين، الذين يحتاجون إلى فرصة للإساءة وإلى تشويه جميع الإنجازات والأمور الإيجابية التي أحرزتها واستكملتها روسيا وسورية خلال السنوات الأخيرة".
ويزيد بذلك عدد مبعوثي روسيا المتابعين بشكل يومي للملف السوري إلى ثلاثة، فإضافة إلى يفيموف يُعنى ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية والمبعوث الخاص للرئيس إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالملف السوري، وسبق له أن أجرى آلاف اللقاءات مع ممثلي المعارضة والنظام في موسكو ودمشق وعواصم عربية وغربية. كما يقود ألكسندر لافرنتييف المبعوث الخاص لبوتين إلى سورية الوفد الروسي في مفاوضات أستانة، ويجول على العواصم الإقليمية من أجل البحث عن حلول سياسية ومناقشة قضايا عودة اللاجئين وإعادة الإعمار التي تركز عليها روسيا منذ منتصف 2018، بعد انتهاء الجزء الأكبر من العمليات العسكرية مع إعادة سيطرة النظام على ثلاث من مناطق خفض التصعيد الأربع، إثر عمليات عسكرية للنظام والمليشيات الإيرانية بدعم روسي مباشر. وتمنح الصفة والصلاحيات الممنوحة للسفير يفيموف إمكانية بحث كل القضايا السياسية والعسكرية والاقتصادية مع المسؤولين السوريين واتخاذ القرارات المهمة في شكل أسرع عبر قناة الاتصال المباشرة مع بوتين.
وفي اتصال مع "العربي الجديد"، يسخر مصدر مقرب من الخارجية الروسية من عقد مقارنات بين تعيين يفيموف وبريمر في العراق، مشيراً إلى فوارق جوهرية بين الحالتين "ليس أقلها أن روسيا ليست قوة احتلال وجاءت بطلب رسمي من الحكومة لتعزيز الأمن والاستقرار في البلاد بعد سيطرة الإرهابيين على أكثر من ثلثي مساحتها، بينما واشنطن جلبت الإرهاب بعد الإطاحة بالرئيس الراحل صدام حسين". ويشدّد على أن "النظام في سورية ما يزال قوياً وموجوداً ومهمة روسيا ترميمه ومنع انهيار مؤسسات الدولة كما جرى في العراق، وتسبّب لاحقاً في حرب أهلية بأبعاد طائفية". ويخلص إلى القول إن "الهدف الأساسي هو تعميق الحوار مع الحكومة والأطراف المعارضة وبذل جهود إضافية للدفع بالعملية السياسية، والمساعدة في ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة".
في المقابل، يبدو أن موسكو تخشى من تطورات سياسية واجتماعية درامية في سورية بسبب الأزمة الاقتصادية والمعيشية العاصفة وازدياد نسبة الفقراء، ما ينذر بـ"ثورة جياع" لن تستثني مناطق البيئة الحاضنة للنظام وخزانه البشري، وعودة الاحتجاجات إلى الشارع بشعارات جديدة تبدأ من مطالب معيشية وتتوسع إلى مطالب سياسية بإسقاط النظام العاجز عن توفير أدنى متطلبات الحياة لملايين السوريين في مناطق سيطرته. كما تخشى روسيا من انشقاقات وصراعات داخل النظام على خلفية الأزمة المتفاقمة مع ممول عمليات النظام العسكرية الرئيسي الملياردير رامي مخلوف. وحسب أوساط روسية فإن "أكثر ما تخشاه روسيا هو حدوث فراغ في السلطة أو بعض المؤسسات بسبب هذه الصراعات ما قد يفقدها كثيراً من مكاسبها، ولهذا فإن الوضع يتطلب تحركات سريعة وشاملة مع جميع الأطراف يمكن أن يلعبها يفيموف المخول باتخاذ القرارات السريعة من قبل بوتين مباشرة".
والواضح أن الكرملين يسعى إلى التحضير للفترة المقبلة، فمع تزايد الآمال بانحسار وباء كورونا، تسود قناعة في موسكو بأن الأطراف الدولية سوف تكثف ضغوطها من أجل استئناف العملية السياسية في سورية سريعاً، وربما تطرح مبادرات جديدة تتجاوز موضوع اللجنة الدستورية في حال استمر النظام في تعطيل عملها، والانتقال إلى البنود الأخرى في القرار 2254 المتمثلة في تشكيل هيئة انتقالية حاكمة بصلاحيات تنفيذية كاملة. وفي هذا الإطار، فإن يفيموف يمكن أن يؤدي دوراً مهماً بالضغط على النظام من أجل تخفيف حدة مواقفه والمضي في الحل السياسي، كما يمكن أن يعمل مع المعارضة الداخلية لإيجاد صيغ تخفف من الضغوط الدولية على روسيا عبر إشراك ممثلين عنها في النظام أو إطلاق مبادرات حوار جديدة.
وفي ظل صعوبة المحافظة على التوازنات القائمة بين الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في القضية السورية، خصوصاً مع انتقال إسرائيل إلى هدف إبعاد إيران بالكامل عن سورية بتنسيق مع الولايات المتحدة وأطراف خليجية، تزداد مخاوف موسكو من ردة فعل إيرانية لزيادة تأثيرها داخل النظام، وإضعاف دور روسيا المتهمة بغض الطرف عن الغارات الإسرائيلية أو حتى موافقتها الضمنية عليها لزعزعة دور إيران منافستها الأبرز في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية. وبحسب أوساط روسية فإن طهران قد تعمل على محاولة إزاحة الأطراف المقربة من روسيا داخل بنية النظام، وقد يصل بها الحال إلى توظيف مجموعات من "داعش" لزعزعة الأمن والتخريب على جهود روسيا لاستقرار الأوضاع والانتقال إلى الحل السياسي وإعادة الإعمار والحياة السلمية في جميع نواحي الحياة.
ومع جهودها لمنع الغوص في مستنقع جديد قد يكون أشد قسوة من المستنقع الأفغاني (الاحتلال السوفييتي لأفغانستان بين عامي 1979 و1989)، تشي خلفية يفيموف وتوقيت تعيينه برغبة روسيا في إنعاش الاقتصاد السوري ومنح عملية إعادة الإعمار دفعة أكبر، من أجل تأمين الاستقرار السياسي ومنع انهيار النظام وتثبيت "انجازاتها" العسكرية على الأرض، مع ضمان حصة وازنة لرجال الأعمال والشركات الروسية في "كعكة" المشاريع المقدرة بمئات المليارات من الدولارات.
ومع شحّ المعلومات الرسمية المؤكدة حول دور مبعوث بوتين الجديد، تتجه الأنظار إلى تحركات يفيموف الأولى مع أركان النظام السوري من جهة، وأي تغيرات في صلاحيات قاعدة حميميم التي باتت إلى جانب دورها العسكري في الصراع مركزاً للمصالحات ومقراً لعقد اجتماعات سياسية بين الأطراف المتحاربة ومن ضمنها النظام والأكراد إضافة إلى المعارضة السياسية القريبة من النظام، من جهة أخرى. ويكشف هذا الأمر عن وجود مقاربات روسية جديدة تمنح الحل السياسي وإعادة الإعمار الأولوية في سورية أو عدمه، ويحدد مستقبل وصاية الكرملين على دمشق. الأيام والخطوات المقبلة ستكشف عن طبيعة المهمة ولعل الأهم هو دور مركز حميميم وهل سينتقل جزء منه إلى يفيموف أم لا، فيما عسكرياً تبقى روسيا مهيمنة ولا تحتاج لإثارة غضب الأطراف الدولية الأخرى.