الجزائر... الحرية أولاً والديمقراطية ثانياً

20 مايو 2020
يرتبط المأزق الحقيقي بطبيعة النظام (رياض كرامضي/فرانس برس)
+ الخط -

جانبٌ من النقاشات الصاخبة الدائرة في الجزائر، بمناسبة مناقشة مسودة الدستور، انسحب إلى استدعاء الجدل حول قضايا الهوية، بعيداً عن المأزق الحقيقي المتعلق بطبيعة نظام الحكم الفاسد، الذي اجتهد في إهدار المقدرات وتوزيع المظالم على مجموع الجزائريين في كلّ مراحل التاريخ السياسي منذ استقلال هذا البلد، وكذا المشكلات العميقة التي أفرزها تقييد الحريات، وخصخصة العدالة، والغش في بناء المؤسسة الديمقراطية. جزءٌ من هذه النقاشات، يندفع بتهور، إلى إذكاء صراع مَرَضي بين "العرب والعربية"، و"الأمازيغ والأمازيغية"، إلى حدٍّ يرسم صراعاً وجودياً بين مكونات الهوية.  

في العام 2013، كان الجدل صاخباً في تونس حول بندٍ ضُمّن في الدستور الذي كان قيد الصياغة في المجلس التأسيسي، يتعلق بإدراج الشريعة كمصدرٍ رئيسي للتشريع، وكانت حركة "النهضة" واقعة بين فكّي رحى القاعدة والشارع الإسلامي الضاغط، وبين القوى العلمانية الرافضة واستحقاقات التوافق. رئيس الحركة راشد الغنوشي، قال حينها (في حوار نشرته "الخبر" الجزائرية)، "نحن لم نر مانعاً من سحبه (البند)، الدساتير تبنى على توافق وليس على أغلبية، عملنا على تجنب عوامل الخلاف والاختلاف مع شركائنا، نعتبر أن الديمقراطية هي الوفاق الأول، والحريات التي يتمتع بها الشعب التونسي هي في حدّ ذاتها مكسب عظيم، مقصد من مقاصد الشريعة".

من حيث القيمة، انتبه التونسيون، كما يتوجب أن ينتبه الجزائريون أيضاً في هذه اللحظة الفارقة المتصلة بروح ثورية عارمة لإحداث التغيير ولمنع النظام من الفوز بفرصة احتيال جديدة، أن الحرية المسؤولة هي الأَولى بالطلب، والديمقراطية أوفى المطالب وأنبلها. وأنه لا يجب أن يعتقل مواطن لموقف ولا يسجن لرأي ولا يضطهد الإنسان على أساس هوية أو انتماء مناطقي. وأنه يتعين أن يعطى لكلٍّ فرصته المكافئة، وأن تجد كل فكرة سليمة مساحتها التي تليق بها، وكل ثقافة وهوية محلية المساحة التي تستحقها للتعبير عن نفسها، ويتسيد العلم وتُولى المناصب على أساس الكفاءة لا الولاء. وبحيث تفرز الديمقراطية الحقّة المؤسسات التمثيلية للشعب، وتتعزز العدالة ومؤسسات المساءلة والصحافة، وتزدهر المبادرة الاقتصادية، ويستعيد المواطن ثقته في نفسه، ويتوقف هروب الشباب من بلد النفط.

في غياب الحرية والديمقراطية، ستستمر السلطة في مصادرة كلّ عناوين الهوية الوطنية. لن تحترم لا الهويات ولا اللغة ولا الدين ولا إرادة الشعب حتى، ولن يتسع مجال لفكرة أو رأي، ولن يُكيل للمواطن حق، ولن تزدهر المناطق والجهات. لم تأخذ الصحراء بسكانها العرب والأمازيغ، المالكية والإباضية، حقّها من التنمية بسبب ذلك، ولم ترتق العربية، وهي مدونة في الدستور منذ ستة عقود، إلى مكانتها التي تستحق. خلال تلك العقود، تلاعبت السلطة بالإسلام المُدون ديناً للدولة، فأحالته رافعاً للاشتراكية، ثم أتاحت مناخاً للتشدد، ثم دفعت بالزوايا التي تمسك الدين من ذيله، كما تلاعبت بالأمازيغية من تهمة تقود إلى السجن إلى قضية سلطة.

لن يعيد الجزائريون اكتشاف معالم الشخصية الوطنية وهوياتهم المحلية، وليس من الجدير أن يصبح نقاش قضايا الهوية مقدماً على نقاش الحريات والديمقراطية، ذلك أن مناقشتها في وضع مختل وأفقٍ مرتبك غير واضح المعالم وجغرافيا هزازة، سيكون مقدمة للاحتراب ولمزيد من التهالك الداخلي. هذه القضايا، إذا كان من داع لها، فتناقش في ظروف استقرار مؤسساتي ومناخ ديمقراطي صحي وسليم، تتسيد فيه الحريات والحجة العلمية، وبمؤسسات تمثل الشعب لا تمثل عليه، ذلك أن كثيرا من المتمترسين خلف قضايا الهوية، إنما يخشون الديمقراطية التي تضع كلاً في حجمه، وهي الدواء لكل غلو وتطرف بكل أبعاده.

المساهمون