لأكثر من أربع سنوات، ظلّت محافظة الجوف الاستراتيجية شمالي شرق اليمن، أشبه بمفتاح سحري في أيدي الحكومة اليمنية الشرعية المدعومة من السعودية، باستطاعته تحرير عدد من المحافظات، إلا أنها لم تتمكّن من استغلاله كما يجب في تهديد خصومها بمعاقلهم الرئيسية في صعدة وعمران وصنعاء، وفرّطت به في غمضة عين لصالح الحوثيين، وباتت تفاخر بأنها تسيطر على نسبة مئوية من صحراء الحزم ومديرية خب والشعف في المحافظة.
استعادت الشرعية محافظة الجوف في العام 2016، لكنها اكتفت بالتمركز فيها من دون استغلال موقعها الحيوي أو تحصينها، حتى مطلع مارس/آذار 2020، حين استعادها الحوثيون مجدداً بعد معركة كانت أشبه بـ"التسليم"، وبات من الواضح أنّ الشرعية ستتلقى عواقب تلك الانتكاسة خلال الأيام المقبلة، مع توسّع شهية الحوثيين للسيطرة على مدن ومحافظات مختلفة، أبرزها مأرب الغنية بالنفط والغاز.
وعلى الرغم من أنها محافظة فقيرة مقارنة بباقي المحافظات القريبة منها، إلا أنّ الجوف تمتلك ثقلاً استراتيجياً، يؤهل الطرف المسيطر عليها للتحكّم في "رتم" المعركة الدائرة باليمن منذ خمس سنوات، وتهديد 5 محافظات حيوية، حيث تشرف على محافظات عمران من الغرب، وصنعاء من الجنوب الغربي، ومأرب من الجنوب، وحضرموت من الشرق، وصعدة من الشمال. أما في الشمال الشرقي، فهناك منابع النفط السعودية في صحراء الربع الخالي.
بالنسبة للحوثيين، تبرز الجوف كأهم المناطق التي وقعت في قبضتهم خلال سنوات الحرب الخمس الماضية. وخلافاً لحدودها مع محافظة حضرموت النفطية في أقاصي الشرق اليمني، فإنّ منابع النفط في محافظة مأرب، تبدو الهدف الأقرب للجماعة، وعُرضة لهجوم محتمل خلال الأيام المقبلة، وفقاً لمصادر عسكرية متطابقة تحدثت لـ"العربي الجديد".
وبالفعل، وبالتزامن مع إعلان الحوثيين رسمياً إحكام سيطرتهم على الجوف الذي تأخر إلى أول من أمس الثلاثاء في 17 مارس الحالي، شنّ مقاتلو الجماعة هجمات متزامنة على مأرب من ثلاثة محاور، وكان الهدف الرئيسي هو إسقاط معسكر "كوفل" بمديرية صرواح، حصن الدفاع الأبرز عن مأرب.
وبعيداً عن المكاسب العسكرية الداخلية التي تحققت للحوثيين عقب السيطرة عليها، تمتلك الجوف حدوداً شاسعة مع السعودية، وهو ما سيجعل المملكة تذعن للجماعة في نهاية المطاف وتدخل بمشاورات سلام معها، حفاظاً على حقل الشيبة النفطي في الربع الخالي من أي هجمات صاروخية أو عبر طائرة مسيرة بدون طيار باتت على مرمى حجر منها.
التموضع الكامل
تريث الحوثيون لأكثر من أسبوعين لاجتياح مدينة الحزم عاصمة الجوف، حتى الإعلان الرسمي للسيطرة على غالبية مديريات المحافظة باستثناء مناطق في صحراء الحزم وخب والشعف، وهذه الأخيرة هي أكبر مديريات الجوف مساحة، والأقرب للحدود السعودية.
ومن المرجح أنّ الحوثي كان يسعى لفرض السيطرة الكاملة على أراضي الجوف قبل الإعلان الرسمي، لكن محاولات تقدّم عدة في اتجاه منطقة اليتمة جعلته يتراجع خشية من أن تتحول الصحراء إلى فخّ قد يستنزف مقاتليه سواء بالضربات الجوية أو هجمات الجيش اليمني.
ويقول الجيش اليمني التابع للشرعية، إنّ المساحة الأكبر من الجوف لا تزال تحت قبضته، لكنها مناطق صحراوية وفقاً لمراقبين، ولا تشكّل أهمية استراتيجية، مقارنة بعاصمة المحافظة وباقي المناطق الرابطة بصنعاء ومأرب.
الأنظار على مأرب
لا يخفي الحوثيون أنّ أطماعهم كبرت بعد السيطرة على الجوف، فالمتحدث الرسمي للجماعة وكبير المفاوضين، محمد عبد السلام، كشف عن نوع من غرور القوة، وقال في تصريحات نقلتها قناة "المسيرة" التابعة للحوثيين، مساء الثلاثاء الماضي، إنهم بعد تأمين حزام الجوف باتوا "أشد حزماً وعزماً على مواصلة استكمال تحرير باقي المناطق اليمنية المحتلة"، في إشارة إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الشرعية والتحالف السعودي الإماراتي.
في السياق، رأى الباحث والمحلل السياسي اليمني، ماجد المذحجي، أنّ جماعة "أنصار الله"، "اكتسبت بعد السيطرة على غالبية الجوف، مساراً عسكرياً سهلاً إلى عصب الثروة المأربية المتمثلة بآبارها النفطية ومصفاة تكريرها، من دون الحاجة للاستيلاء على مدينة مأرب"، عاصمة المحافظة المحصنة جيداً بقوات الجيش ورجال القبائل.
وقال المذحجي، وهو أيضاً المدير التنفيذي لـ"مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية"، في تصريحات لـ"العربي الجديد": "من الجوف، أصبح بمقدور الحوثيين نظرياً التقدّم نحو شبوة في الجنوب وحضرموت في الشرق، ولكن قبل هذا، سيتطلب الأمر تأمين مأرب بالكامل، وهو ما بدا أخيراً من خلال عمليات صرواح وقانية".
وفي موازاة الهجمات على الأرض من محاور مختلفة بصرواح التي تبعد نحو 70 كيلو متراً عن مدينة مأرب، بدأ قادة حوثيون، بشنّ حرب نفسية، إذ أطلق القيادي محمد البخيتي ما وصفه بـ"النداء الأخير" لقبائل مأرب، ودعاهم في تغريدة على "تويتر"، لسرعة التنسيق مع الجماعة، والتخلي عن الشرعية، في مقابل العفو عنهم وتمكينهم من الاحتفاظ بكامل سلاحهم وعتادهم، لافتاً إلى أنّ المحافظة ستعود قريباً إليهم.
أداء باهت للشرعية وعلامات استفهام حول التحالف
في السابع من مارس/آذار الحالي، كان المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث، يزور مأرب بهدف تحصينها من أي هجوم حوثي محتمل بعد التأكد من سقوط الجوف، ومن هناك، طالب غريفيث بعدم تحول المحافظة النفطية إلى بؤرة عنف جديدة، وأن تستمر كـ"ملاذ للنازحين".
ضربت جماعة الحوثي بالدعوات الأممية للتهدئة عرض الحائط، وبات من الواضح أنها تسابق الزمن بهدف استغلال انشغال العالم بمحاربة فيروس "كورونا"، من أجل شنّ هجمات عنيفة على مأرب خلال الأيام المقبلة، مستفيدةً من الترهل الكبير الذي تعانيه الشرعية.
وفي هذا الإطار، رأى الضابط في الجيش اليمني، ماجد الشرعبي، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أنّ "ردة فعل الشرعية حيال سقوط الجوف لا تبعث على الطمأنينة حيال مستقبل مأرب، وهذا ما يستغله الحوثي من خلال تكثيف هجماته، لكن الأمل نوعاً ما بقبائل مأرب". وأضاف: "من المتوقع أن تسقط مأرب، ولكن ليس بسهولة، فالحوثيون يهاجمون والشرعية تكتفي بالدفاع فقط، خلافاً للسنوات السابقة، عندما كانت القوات الحكومية تدافع وتقوم بالهجوم في الوقت نفسه".
وأشار الضابط اليمني إلى أنّ جميع الجبهات التي كانت تشهد تماسكاً كبيراً في السنوات الماضية، "تفككت بسبب أداء الشرعية، الذي ساهم بتسلل الإحباط إلى نفوس الجميع، جراء القادة الميدانيين في الجيش الوطني الذين يتحملون المسؤولية عن إحباط معنويات الجنود المرابطين بالجبهات، إذ يقومون بالحسم من مرتباتهم أو تأخيرها لـ6 أشهر".
وتابع الشرعبي: "إذا استمر الحال على ما هو عليه، ستكون مأرب في خطر، لا وجود لأي تحشيد أو استنفار من قبل الشرعية في المحافظة. أيضاً أداء التحالف يثير الكثير من علامات الاستفهام مقارنة بالسابق، إذ كان الغطاء الجوي حاسماً في كثير من المعارك، لكنه غاب الآن في الجوف، ويبدو أنّ الأمر سيتكرر في مأرب، وستكتفي السعودية بغارات متفرقة على مواقع غير هامة كنوع من إسقاط الواجب".
وأكد عدد من الجنود أنّ ما وصفوه بـ"فساد قيادة المؤسسة العسكرية" ساهم في الترهل الحاصل بأداء الجيش الوطني، إذ تم منح ترقيات ومناصب للمئات من أبناء المسؤولين الكبار وأقاربهم، في الوقت الذي يتم فيه استغلال الجنود المرابطين على الجبهات، والحسم من مرتباتهم، وهو ما دفع بالعشرات منهم إلى ترك مواقعهم والتوجه إلى جبهات الحدود مع السعودية، حيث تتكفل الرياض بدفع مرتبات مجزية.
وخلافاً لآلاف المقاتلين الذين دربوهم في صنعاء خلال السنوات الماضية، مستغلين الركود الذي شهدته غالبية الجبهات، من المرجح أن يعتمد الحوثيون في معركة مأرب على حاضنة قبلية عريضة موالية لهم، كما حصل في الجوف، على الرغم من أنّ الأخيرة من أبرز حاضناتهم الشعبية منذ حروب صعدة ضدّ الحكومة في العام 2004.