تسع سنوات روسية في سورية: نحو مستنقع أفغاني جديد؟

15 مارس 2020
ضمنت روسيا وجوداً دائماً شرق المتوسط (الأناضول)
+ الخط -


وظّف الكرملين كلّ إمكاناته السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية، طوال تسع سنوات من عمر الحرب السورية، من أجل استخدام ورقة هذه الحرب، بأكبر قدرٍ ممكن في سياساته الداخلية، وطموحاته لاستعادة الدور العالمي كطرفٍ لا يمكن الاستغناء عنه في حلّ الأزمات الدولية، من آسيا إلى أميركا اللاتينية، مروراً بأوروبا وأفريقيا. وسمحت الظروف الدولية، خصوصاً سياسة التردد واستراتيجية الانكفاء لدى الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بفرض وصايةٍ كاملة روسية على سورية، عزّزتها سياسة التنسيق مع الأطراف الإقليمية المستثمرة في أزمة هذا البلد (تركيا، إيران، وإسرائيل)، وسط تراجعٍ ملحوظ للدور العربي، جعلته الأزمة الخليجية ومقاطعة قطر يكاد يكون معدوماً.

وعلى الرغم من نشوة "الانتصارات" العسكرية والدبلوماسية الروسية، فإن الوصول إلى حلٍّ سياسي شامل وفق رؤية موسكو، ويحظى في الوقت ذاته بقبول السوريين والأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة، لا يزال بعيداً، ويتطلب تنازلاتٍ روسية كبيرة لقوى إقليمية تتناقض رؤيتها حول مستقبل سورية، وبات من الصعب التوفيق بين مطالبها. ولعل الأهم أن موسكو مجبرةٌ على الاستعانة بجهود بلدان الخليج وأوروبا والولايات المتحدة وغيرها، من أجل ضمان استقرار سورية، التي فقدت أكثر من 90 في المائة من اقتصادها، وتحتاج إلى مئات المليارات لإعادة الإعمار لا طاقة لروسيا وحلفائها على ضخّها. ومن الطبيعي أن تتطلّب هذه الاستحقاقات تنازلات سياسية دونها غوص روسيا في مستنقعٍ أفغاني جديد، وتكرار ما كانت حذرت منه واشنطن في تدخّلاتها في أفغانستان والعراق.

وفي بداية ثورات الربيع العربي، كشفت مواقف موسكو عدم تحمسها لأي حراكٍ جماهيري، ورأت أنها تأتي في سياق "الثورات الملونة" التي اجتاحت بلداناً في الاتحاد السوفييتي السابق. ومع وصول رياح التغيير سريعاً إلى سورية، لم تكن روسيا تملك استراتيجية واضحة للتعامل مع آخر حليفٍ لها في الشرق الأوسط، لكن مواقفها دعمت رؤية النظام في تفسير الحراك على أنه "مؤامرة كونية" لإسقاطه، مع دعوات شكلية للإصلاح السياسي وتلبية مطالب المتظاهرين السلميين. ودعمت روسيا نظام بشار الأسد سياسياً ودبلوماسياً، وزودته بالعتاد والأسلحة لمواصلة الحرب ضد "الإرهابيين والمندسّين". والواضح أن صعود حركات الإسلام السياسي في بلدان عربية عدة كونها الطرف الوحيد المؤهل لملء الفراغ في السلطة لعوامل أورثها غياب الحياة السياسية لعقود من قبل الأنظمة الشمولية، أثار حفيظة روسيا ودفعها نحو التشدد. وغطّت موسكو تشددها بـ"متلازمة 1973"، وهو رقم القرار الدولي الذي سمح لحلف شمال الأطلسي والغرب بالتدخل في ليبيا. وقالت موسكو إنه تمّ خداعها لتوافق على القرار الذي استُخدم لاحقاً من أجل شنّ حملة على حليفها معمر القذافي. وبحجة منع التدخل الخارجي، ومحاولات إسقاط الأنظمة من الخارج، عطّلت موسكو عشرات القرارات الدولية، وأشهرت حق النقض (الفيتو)، مانعةً معاقبة النظام السوري، ما منحه غطاءً لاستمرار قمع وقتل السوريين. ومع رفضها كل العروض العربية من أجل إيجاد حلٍّ لحقن الدماء في سورية، مع ضمان مصالحها في حال خلع الأسد، بدا واضحاً أن موسكو تريد استخدام الورقة السورية حتى النهاية لخدمة أهداف جيواستراتيجية كبرى بهدف إعادة دورها العالمي.

وعلى الرغم من موقفها الثابت في دعم نظام الأسد، لم تتوقّف موسكو عن بحث الحلول مع جميع الأطراف الإقليمية والدولية، لكنها لجأت إلى تكتيكاتٍ تهدف لكسب الوقت من أجل إطالة عمر النظام، منها التوصل إلى توافقات دولية بعد نقاشات طويلة، ومن ثم محاولة فرض تأويلاتها الخاصة للاتفاقات. وحدث ذلك مع بيان "جنيف 1" في يونيو/ حزيران 2012، أو مع الوصول إلى صفقات تضمن عدم معاقبة النظام كما جرى في عام 2013 بإتمام صفقة الكيميائي مع الولايات المتحدة التي تضمّنت وقف أي ضربة لنظام الأسد مقابل تخليه عن ترسانته الكيميائية، في صفقة سحبت سلاح الجريمة ولم تعاقب المسؤولين عن قتل المئات بهذا السلاح في دوما، وسمحت للنظام بمواصلة إبادة كل من يشق عصا الطاعة، بالبراميل والصواريخ والقذائف.


وازدادت أهمية الورقة السورية لدى الكرملين بعد أحداث شرقي أوكرانيا وضمّ القرم والعقوبات الغربية على خلفيتها. وشكّل التدخل العسكري المباشر في سورية خريف عام 2015 سابقةً في تاريخ روسيا بعد السوفييتية. واللافت أن التدخل جاء بطلبٍ من إيران التي باتت عاجزة عن حماية النظام، ومباركة من بلدان الخليج العربي التي انطلقت من أن أجندات ومصالح روسيا غير الطائفية يمكن أن تمنع دمشق من السقوط نهائياً في فلك نفوذ الملالي.

وباستخدام أسلوب الأرض المحروقة، وكثير من التركيز على المعارضة غير الإسلاموية، وضرب أهداف محدودة لـ"جبهة النصرة" وتنظيم "داعش"، استطاعت موسكو وقف تقدّم المعارضة، وقلب المعادلات على الأرض لصالح النظام الذي كانت قد انحسرت مساحة سيطرته بحسب المسؤولين الروس عشية التدخّل العسكري إلى 17 في المائة من الأراضي السورية. وتعرضت الجهود الروسية لنكسةٍ كبيرة بعد إسقاط إحدى مقاتلاتها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 من قبل تركيا. وعلى الرغم من خلافات الطرفين التركي والروسي بشأن مصير الأسد ودعمهما طرفين متحاربين في الميدان، تجاوزت موسكو وأنقرة العداء التاريخي المستأصل بينهما منذ قرون، وبدأ البلدان بنسج علاقات لإدارة الأزمات وفصل الملفات. وتسبّبت حادثة إسقاط الـ"سوخوي 24" في 2015 بقطيعة بين "القيصر" و"السلطان" لم تدم طويلاً، لتعود العلاقات أقوى بعد موقف موسكو من الانقلاب الفاشل على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (يوليو/ تموز 2016)، وتراجع العلاقات بين أنقرة وكلٍّ من بروكسل وواشنطن.

ومثّلت السيطرة على حلب الشرقية في نهاية عام 2016 محطةً فاصلة في تاريخ الثورة السورية، وسارعت موسكو إلى السعي لاستغلال الاختلال في موازين القوى لصالح النظام، لإطلاق مشروعها للحل السياسي بعيداً عن جنيف وتفاهمات فيينا، والاعتماد على روافع إقليمية تساعدها في الحل وتشرعنه وتثبته. وقبلها رعت موسكو مئات الهدن والاتفاقات المحلية في جنوب دمشق، والقلمون وغيرها لتثبيت الأوضاع وعدم تشتيت قوة النظام والمليشيات المساندة له على الأرض. وفي بداية عام 2017، أطلق الروس مسار أستانة مع تركيا وإيران، وفيه عمدت موسكو إلى التوصل إلى حلول عسكرية للأوضاع، وابتكرت في مايو/ أيار من ذلك العام مناطق خفض التصعيد في غوطة دمشق والجنوب، وشمال حمص وإدلب. وفي 2018، بدأ النظام بمساعدة القوة الروسية المفرطة في إنهاء ثلاث من هذه المناطق واحدة بعد الأخرى، عبر مقايضات مع تركيا، ونيل موافقة إسرائيل في ما يخص الجنوب. ومع التراجع عن الهدن والسيطرة على هذه المناطق، انتشر النظام على نحو 60 في المائة من مساحة سورية، وضمنت روسيا الاستيلاء على "سورية المفيدة" بشرياً، ووجود دائم شرق المتوسط كخيار أدنى في حال الخلاف مع الجانب الأميركي الذي كان يسيطر عبر حلفائه الأكراد على قرابة 30 في المائة من الأراضي الغنية بالنفط والغاز والماء والتي تنتج المحاصيل الغذائية الاستراتيجية.

وفي الوقت ذاته، لعب الكرملين على عامل تفتيت المعارضة إلى منصات متنافرة (موسكو، القاهرة، الرياض) ودمجها في الهيئة العليا للتفاوض. ولم يقتصر جهد الروس على محاربة المعارضة، بل ذهب إلى ترتيب أوضاع تسمح لهم بنفوذ واسع في المؤسسات الأمنية للنظام وجيشه.

وبعد ميل الكفّة بشكل واضح إلى مصلحة النظام، دفعت موسكو بفكرة مؤتمر سوتشي للحوار السوري، رغبةً في احتكار الحلّ السياسي بعد تسوية الأمور العسكرية على الأرض مع الفصائل المعارضة باستثناء إدلب، واستباقاً لإعلان النصر على تنظيم "داعش". وأبصر المؤتمر النور في نهاية يناير/ كانون الثاني 2018. وعلى الرغم من تأكيدها المستمر على التعاون مع المبعوثين الأمميين لحل الأزمة السورية، فإنها أفرغت كل مبادراتهم من فحواها، ولعبت على عامل الوقت والخوض في تفاصيل التفاصيل من أجل تقويض جهودهم، واستغرق موضوع اللجنة الدستورية وتشكيل وفد النظام والمعارضة أكثر من عام ونصف العام، على الرغم من ذهاب المبعوث الأممي السابق ستيفان دي ميستورا إلى تغيير أولوياته والتركيز على اللجنة الدستورية التي لم تظهر إلا بعد أشهر من تولّي خلفه غير بيدرسن.

ومن الواضح أن الكرملين حقّق خلال تدخّله في سورية اختراقات مهمة، من عودة موسكو بقوة إلى الملفات الدولية، إلى تحقيق أحلام الإمبراطورية بوجود دائم في المياه الدافئة، ووضع قدم لروسيا في شرق المتوسط لتكون لاعباً مهماً في مراكز إنتاج ونقل الطاقة إلى أوروبا بعد اكتشافات النفط والغاز الكبيرة، وغيرها من المكاسب الاقتصادية، وزيادة بيع الأسلحة بعد حقل الرماية السوري.

ومع دخول ثورة السوريين عامها العاشر، لا يبدو أن موسكو قادرةٌ على إعلان نصرٍ نهائي بعد إعلانات سابقة، فمواصلة استراتيجية القضم التدريجي للأراضي لفرض سيطرة النظام الكاملة على الجغرافيا السورية، ستؤدي إلى صدام مع تركيا والولايات المتحدة. كما أن حجم التناقضات بين تركيا وإيران من جهة، وإيران وإسرائيل من جهة أخرى، تتزايد، ما قد يبقي سورية ساحة حرب بالوكالة بينهما. واقتصادياً، يبدو الروس عاجزين عن الدفع بإعادة الإعمار مع سريان قانون قيصر الأميركي قريباً، وعدم تشجع الأطراف الإقليمية والدولية على ضخ أموال من دون استقرار سياسي. وتلعب الظروف الاقتصادية ضد قدرة الكرملين على الصمود طويلاً، في ظلّ الأزمة الاقتصادية العالمية الوشيكة بسبب "فيروس كورونا" واشتعال الحرب على الأسواق، والتي حرقت حتى الآن نحو 300 مليون دولار يومياً من دخل روسيا مع إمكانية زيادة الخسائر. وأخيراً فإن بوتين الذي استطاع "تصفير" فترات رئاسته الأربع السابقة، لن يكون قادراً على "تبييض" صفحة نظام قتل مئات الآلاف من السوريين، وأخفى قسرياً عشرات الآلاف منهم، وشرّد الملايين. وربما بات على الروس التفكير ملياً في تقديم تنازلات تضمن لهم جزءاً مما تحقق، وتمنع انزلاقهم في مستنقع "أفغاني" جديد، بعدما لعبت أفغانستان عاملاً كبيراً في كسر شوكة الاتحاد السوفييتي وانهياره.