يتنازع الرئيسَ المصري عبد الفتاح السيسي حالياً هدفان رئيسيان، أولهما إنقاذ نفوذه المهدد في ليبيا، وثانيهما تفادي الدخول في معركة مباشرة على التراب الليبي مع تركيا، إذ جاءت التطورات الأخيرة، منذ إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بدء إرسال عدد رمزي من قواته لتولي مهام التنسيق العسكري والاستخباراتي بالتعاون مع قوات حكومة الوفاق الوطني، وحتى اتفاقه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الداعم لمليشيا شرق ليبيا بقيادة خليفة حفتر، على المطالبة بوقف شامل لإطلاق النار في ليبيا من الأحد المقبل، في ما يعتبر بمثابة رسالة إحراج وتهميش غير مسبوقة للنظام المصري منذ بدء الصراع.
فالدعوة إلى وقف إطلاق النار من الداعمين الرئيسيين لقوات الوفاق ومليشيات حفتر، في وقت ارتأت فيه مصر أن عودتها للمطالبة بتغليب المسار السياسي بين الدول المتورطة في دعم أطراف الصراع، تحمل رسالة تهميش واضحة للقاهرة والعواصم الأوروبية، التي تحاول ضمان موطئ قدم لها في ليبيا المستقبل، باستخدام المقاربات والأدوات القديمة نفسها، التي أثبتت فشلها، وطالب السيسي من قبل بعدم اتباعها، والمتمثلة في الاجتماعات والمؤتمرات التشاورية، بمعزل عن روسيا وتركيا والإمارات، وهي الدول، التي اعتبرت مصادر دبلوماسية أوروبية في القاهرة، في تصريحات سابقة لـ"العربي الجديد"، أنها تحمل مفتاح الحل والمستقبل في ليبيا، بعد استغراق العواصم الأوروبية، خصوصاً باريس وروما، في الرهانات الفاشلة على إمكانية حسم الصراع عسكرياً لصالح حكومة الوفاق أو حفتر، الأمر الذي يبدو مستحيلاً اليوم.
وقالت مصادر دبلوماسية مصرية، لـ"العربي الجديد"، عقب الاجتماع التشاوري الخماسي في القاهرة بين مصر وفرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص، يبدو أن أردوغان وبوتين أسبق من الجميع وعياً بأن إبقاء الصراع السياسي مستمراً في ليبيا ربما يكون خياراً مناسباً لكليهما، وإذا لم يكن منه مفر، فيمكن تطبيق الحالة السورية على ليبيا، بتقسيم المناطق بينهما على مستوى النفوذ والاستفادة الاستراتيجية. وأضافت المصادر أن السيسي يفطن لحقيقة أن وقف إطلاق النار الآن سيعطي فرصة لتنفيذ هذا السيناريو، وسيجرده من نفوذه حتى على مليشيات حفتر التي يدعمها بصورة مستمرة، وتعتبر قيادتها من صنيعة المخابرات المصرية.
وأوضحت المصادر أنه فور بلوغ نبأ دعوة أردوغان وبوتين لوقف إطلاق النار لوزراء خارجية الدول الخمس، الذين كانوا اجتمعوا في القاهرة مساء أول من أمس، سيطرت عليهم حالة من الغضب والقلق. ووعد الطرفان الفرنسي والإيطالي بالضغط على المسؤولين الأوروبيين، وبصفة خاصة في ألمانيا، للدفع بقوة لعقد مؤتمر برلين بشأن القضية الليبية في أسرع وقت بالتعاون مع الأمم المتحدة، في محاولة لانتزاع شرعية التدخل السياسي في ليبيا من تركيا وروسيا. وذكرت المصادر أن سيناريو سورية الذي نتج عنه تآكل التواجد الاستراتيجي الأميركي والأوروبي في المنطقة لصالح روسيا وتركيا، يسيطر بشدة على أذهان الأوروبيين ومصر، لكن في الوقت نفسه لا يرغب أي طرف منهم في تصعيد الصراع حفاظاً على المكتسبات الاقتصادية والاستراتيجية المحتملة، لا سيما في ما يتعلق بحقول النفط التي ما زالت تعمل تحت حماية مشتركة من القوى المتنافسة.
وشددت المصادر على أن تحوّل موقف السيسي للتنسيق بإيجابية مع فرنسا وإيطاليا جاء بعد تلقيه رسائل من البيت الأبيض بعدم استعداد الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتدخل في الشأن الليبي "بفاعلية" في الوقت الحالي، وهو ما يتسق مع ما سبق أن قالته مصادر دبلوماسية أوروبية بالقاهرة عن الأمر نفسه، بعدم حصول السيسي على الاستجابة السريعة المنتظرة من ترامب عندما طالبه بالتدخل في القضية على نحو عاجل الشهر الماضي، بعد إعلان أردوغان توجهه لإرسال القوات قبل العرض على البرلمان، خصوصاً في ظل انشغال ترامب المتزايد بالأزمة الأخيرة مع إيران.
وجاءت مخرجات الاجتماع الخماسي بالقاهرة لتعبّر عن عدم بلورة حلول واضحة، إذ كانت مجرد ترديد لمواقف سبق إعلانها. واعتبر الوزراء، في بيان، أن مذكرة التفاهم بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية تشكل انتهاكاً لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة والقانون الدولي، وأنها تنتهك الحقوق السيادية للدول الأخرى في مناطق المياه الاقتصادية، ولا تتوافق مع قانون البحار، ولا يمكن أن تُحدث أي آثار قانونية. وشددوا على ضرورة الاحترام الكامل لسيادة كل الدول وحقوقها السيادية في مناطقها البحرية بالبحر المتوسط، قاصدين بذلك دعم اليونان وقبرص. كما دانوا الأعمال التركية المستمرة في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص ومياهها الإقليمية. وعاد الوزراء للاستناد إلى قرار مجلس الأمن رقم 2295 لمعارضة أي قرار بإرسال قوات إلى ليبيا، واعتبار ذلك انتهاكاً خطيراً وتهديداً للأمن والاستقرار الإقليميين. ودعوا إلى خفض فوري للتصعيد، مؤكدين أن الحل السياسي الشامل هو السبيل الوحيد لحل الأزمة واستعادة الاستقرار. وأكدوا دعمهم لجهود المبعوث الأممي غسان سلامة، ومبادرات الأمم المتحدة، وعملية برلين. ومن المقرر أن يجتمع وزراء خارجية الدول الخمس لاحقاً في جزيرة كريت اليونانية لمواصلة التشاور حول سبل التصدي للتدخل التركي في ليبيا ومشكلة الحدود البحرية بشرق المتوسط.
وكان السيسي قد قال، في كلمته خلال احتفال الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في عيد الميلاد، الثلاثاء الماضي، عبارة "محدش يقدر يجرجرنا هنا أو هنا"، في إشارة واضحة لعدم احتمال التدخل العسكري المباشر في ليبيا. ووصف التصعيد التركي بأنه محاولة لجر مصر لمعركة مفتوحة. وبعدها انحسرت بشدة دعوات التدخل العسكري التي كانت تسود وسائل الإعلام المصرية الموالية للنظام. وفي نهاية الأسبوع الماضي أكدت الخارجية المصرية للمرة الأولى "دعمها الكامل لفرص التوصل لحل سياسي للأزمة الليبية من خلال مؤتمر برلين" المزمع إقامته، والذي تم تأجيله عدة مرات، والذي لم يكن السيسي متحمساً للمشاركة فيه سابقاً، في خطوة تعكس تغيراً في الموقف المصري تجاه ليبيا نحو إحياء المفاوضات السياسية بالتوازي مع دعم حفتر، مع عدم تفضيل النظام الحاكم المجازفة بالتدخل العسكري المباشر في الوقت الحالي.
وتغير موقف السيسي من هذا المسار السياسي بسبب عاملين مهمين، أولهما الفشل الميداني الذي يسيطر على حملة حفتر على طرابلس منذ إبريل/نيسان الماضي، وهي الحملة التي لم يكن السيسي متحمساً لها في البداية، لكن رفضه للتضحية بحفتر جعله يصر على دعمها بقوة، في الأطر المحسوبة. وهو يعارض رغبة الإمارات في تغيير قيادة مليشيات شرق ليبيا الصيف الماضي، ويراهن على إمكانية تحقيق انتصار يلغي حكومة الوفاق ويمنع ظهور تياراتها لاحقاً على طاولة المفاوضات. أما العامل الثاني، وهو مترتب على الأول، فهو أنه بات واضحاً، خصوصاً بعد تدفق المساعدات التركية لحكومة الوفاق، أنه حتى باستمرار الدعم الروسي والإماراتي والمصري فمن المستحيل نجاح حفتر من دون مساهمة عسكرية مصرية نظامية على الأرض، بينما يرى السيسي أنّ من المخاطرة بالنسبة لبلد مأزوم اقتصادياً مثل مصر إنفاق الأموال على حرب، وهو ما تبدى سابقاً في تملصه الدائم من محاولات السعودية والإمارات الزج بمصر في أتون حرب اليمن.