ويأتي ذلك في وقت يفتح فيه حديث أردوغان، عن أنّ هدف الوجود العسكري التركي في ليبيا ليس للقتال، وإنما للحيلولة دون وقوع أحداث من شأنها التسبب في مآس إنسانية وتقويض الاستقرار في المنطقة، وذلك عبر دعم الحكومة الشرعية، تساؤلات حول الشكل الذي سيتخذه التدخل العسكري التركي في ليبيا، وما إذا سيكون شبيهاً بما حصل في سورية. وحملت تصريحات المسؤولين الأتراك، رسائل في هذا الاتجاه، لا سيما مع حديث وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أمس عن أنه يتعين "على الجميع أن يدرك أن لا منتصر في الحرب الليبية، ويمكن أن تطول كثيراً إذا لم نوقفها، وإذا دخلت قوات حفتر العاصمة طرابلس، فإن هذه الحرب ستطول كثيراً وسيموت أناس كثر"، في ما بدا محاولة تركية لرسم حدود التدخل العسكري وربطه بالحل السياسي.
ومرّت العلاقات بين الدولتين التركية والليبية بمحطات عدة منذ عهد الزعيم الراحل معمر القذافي، مروراً بمرحلة ما بعد ثورة فبراير/شباط 2011، وصولاً إلى هذه المحطة الأخيرة التي تجلّت في وضع أنقرة ثقلها خلف حكومة الوفاق.
وكان الدعم التركي المقدم إلى ليبيا تفاوت ما بين سياسي وعسكري، منذ نجاح الثورة في عام 2011 في إطاحة القذافي من سدة الحكم، إذ تحركت تركيا لدعم مرحلة التحول السياسي الديمقراطي للبلاد. وزار أردوغان في تلك السنة طرابلس بصفته رئيساً للوزراء آنذاك، حيث خاطب الشعب الليبي مشدداً على دعم هذا الشعب من دون النظر إلى أي مصالح. ثمّ توالى الدعم السياسي التركي إلى ليبيا في المراحل كافة. كما قدّمت أنقرة دعماً عسكرياً عبر تدريب عناصر من قوى الأمن الليبية الحديثة في مدارس الشرطة التركية عام 2013، إذ تمّ تخريج دفعة من مفوضي الشرطة بلغ عددهم أكثر من 800 عنصر، في حفل رسمي بحضور مسؤولين وقادة من البلدين بعد تدريبات استمرت نحو 7 أشهر، قبل أن ينتقل هؤلاء للخدمة في أجهزة الأمن الليبية. الدعم التركي كان في الإطار الإغاثي والطبي أيضاً في السنوات السابقة، في حين يعمل "الهلال الأحمر" التركي لافتتاح مكتب له في ليبيا هذا العام.
لكن مع تطور الأوضاع تباعاً في ليبيا، عمدت تركيا، ولا سيما بعد بدء الانقلاب العسكري من قبل خليفة حفتر، وانعقاد البرلمان في طبرق في عام 2014، إلى تعزيز دورها السياسي، عبر إيفاد مبعوث خاص لأردوغان إلى ليبيا للقاء الأطراف المتصارعة، في مسعى لحلّ الخلافات قبل أن تتفاقم. وحاول المبعوث التركي الخاص في ذلك العام، إمر الله إيشلر، تقريب وجهات النظر بين الأطراف، عبر لقائه رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح، ومسؤولين في حكومة طرابلس وقادة في مدينة مصراته، ولكن الاتهامات المتبادلة بين هذه الأطراف صعّبت من مهمة إيشلر التي لم تنجح في تليين المواقف. وبعد ذلك، دعمت تركيا بشكل كبير اتفاق الصخيرات الذي شمل أطراف الصراع وتمّ توقيعه في ديسمبر عام 2015، وتمّ بموجبه تشكيل حكومة الوفاق الوطني التي حظيت كذلك بدعم أنقرة، خصوصاً أنّها لقيت اعترافاً من قبل الأمم المتحدة كحكومة شرعية، ونظراً لقربها من مواقف تركيا، عكس مليشيات حفتر التي تناوئ هذه المواقف، وأيضاً بسبب المحور الداعم للواء المتقاعد، المناهض لتركيا، والمتمثّل في الإمارات ومصر والسعودية.
ولطالما كانت هناك مطالب من قبل مسؤولين في طرابلس ومصراته لأنقرة، بشأن الحصول على الدعم العسكري التركي في الفترة التي تلت اندلاع مواجهات عام 2014. لكن القرار التركي كان بالتركيز على الدعم السياسي، في ظل وجود مفاوضات في مدينة الصخيرات المغربية عام 2015. كما لم تكن أنقرة ترى ضرورة التجاوب مع مثل هذه الطلبات في الفترة اللاحقة بسبب وجود مواقف دولية داعمة لحكومة الوفاق، فضلاً عن قلة المساحة التي كان يسيطر عليها حفتر. لكن تقدّم قوات الأخير إلى درنة وبنغازي، ومن ثمّ إطلاق معركة طرابلس في إبريل من العام الماضي، والتخلي الدولي عن الحكومة المعترف بها دولياً بقيادة فائز السراج، وعدم إدانة تقدم مليشيات حفتر ميدانياً على الأرض، ودخول الدعم الروسي عبر مرتزقة شركة "فاغنر" وغيرها، وكذلك الدعم الإماراتي غير المحدود جواً عبر الطائرات بدون طيار، ووصول المدرعات المصرية إلى قوات اللواء المتقاعد، بالإضافة إلى التطورات في شرق المتوسط من اتفاقيات إقليمية تتعلّق بنفط وغاز المنطقة، كلها أسباب دفعت تركيا إلى التحرّك عبر توقيع اتفاقيات مع حكومة السراج، في مجالي النفوذ البحري والتعاون الأمني. هذا فضلاً عن تقديم حكومة الوفاق طلباً رسمياً إلى تركيا لإرسال قوات عسكرية لدعمها. ومن أجل الحفاظ على هذه الاتفاقيات، خصوصاً ما يتعلق بمناطق النفوذ وتأثيرها على مستقبل حوض شرق المتوسط، يتوجّب الحفاظ على حكومة السراج الموقعة للاتفاقات، وإلا فإنّ هذه الأخيرة قد تتعرّض للإلغاء في حال سقوط العاصمة طرابلس في يد مليشيات حفتر. وهذا ما دفع الحكومة التركية إلى خيار التدخّل العسكري من بوابة اتفاقية النفوذ البحري، التي أتت استكمالاً لمسار كان قد بدأ في هذا الإطار منذ فترة حكم القذافي، ولكنه لم يصل إلى مرحلة التوقيع. فتم التوافق في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على الاتفاقية البحرية، إلى جانب اتفاقية تعاون أمني.
ومع التطورات الميدانية في ليبيا في الفترة الأخيرة، سرّعت تركيا من مرحلة التدخل، وصولاً إلى الإعلان عن بدء إرسال قوات عسكرية تدريجياً، وفق إعلان أردوغان الأحد الماضي.
وبذلك، تكون تركيا قد دخلت بلداً عربياً ثانياً بعد سورية وبالطريقة نفسها، عبر مواقف سياسية بداية، ومن ثمّ تحول الأمر إلى تدخّل عسكري. وترجّح مصادر تركية ميدانية فضلاً عن بعض التحليلات بأن يكون شكل التدخل في ليبيا مشابهاً للتدخل في سورية، عبر توافقات تركية روسية تشبه تلك الموقعة في الأخيرة، من خلال قوات فصل ونقاط مراقبة وتسيير دوريات، تهدف إلى الحفاظ على مناطق السيطرة، وإحياء المسار السياسي، من أجل تلاقي الأطراف مجدداً على طاولة الحوار. وبذلك، يكتسب اجتماع برلين المقرر عقده إمّا نهاية شهر يناير/كانون الثاني الحالي، أو بداية شهر فبراير/شباط المقبل، أهمية كبيرة مع تسارع الجهود الدولية لنزع فتيل الأزمة في ليبيا منعاً لتدخل تركيا، بعد موافقة برلمانها الأسبوع الماضي، على إرسال قوات عسكرية إلى هذا البلد.
وقد كان الملف الليبي حاضراً في اتصال بين أردوغان والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، أمس الإثنين، وسيكون حاضراً غداً الأربعاء في قمة الرئيس التركي مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في إسطنبول، إذ يقوم الأخير بزيارة إلى تركيا. وكل هذا الحراك يسبق اجتماع برلين، ويأتي في ظلّ تسارع الحراك الدولي والإقليمي، لإيجاد حلّ وصيغة نهائية لهذا الحلّ.