ست سنوات على الدستور التونسي: بين التعديل ودعوات التطبيق

27 يناير 2020
من احتفالات بالدستور الجديد في فبراير 2014 (أمين الأندلسي/الأناضول)
+ الخط -
على الرغم من مرور ست سنوات على المصادقة على دستور الثورة في تونس، في 26 يناير/كانون الثاني 2014، لا تزال العديد من أحكامه غير مطبّقة، ومنها تشكيل المحكمة الدستورية وهيئات أخرى، لترتفع المطالبات بتعديله، خصوصاً في ظل استمرار الأزمات السياسية الداخلية، وآخرها عجز الأحزاب البرلمانية المنتخبة في 6 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي عن تشكيل حكومة جديدة حتى اليوم.

وجاء دستور الثورة لتغيير نظام الحكم في تونس والقطع مع سنوات من استبداد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، الذي حكم لأكثر من عقدين بقبضة من حديد بواسطة أحكام الدستور السابق، ونجح في تطويع نظام الحكم ليجعله نظاماً رئاسياً واسع الصلاحيات على حساب بقية السلطات والتي تحوّل دورها إلى سلطات شبه صورية.
وقطع دستور 2014 مع الانفراد بالحكم مجدداً في تونس ووضع رقابة بين السلطات الثلاث، وأسس لهيئات دستورية مستقلة لتقوم بتكريس الحقوق والحريات، عبر تأسيس نظام جمهوري برلماني معدل تتقاسم الحكم فيه السلطة التنفيذية برأسيها رئيس الدولة ورئيس الحكومة، في وقت تنبثق فيه الحكومة عن البرلمان الذي يراقبها ويسائلها عن أدائها.

ويعتبر خبراء دستوريون أن النظام السياسي الحالي هجين يتأرجح بين البرلماني والرئاسي، بل هو بدعة تونسية صيغت على مقاس الحراك الثوري الذي أسس المرحلة التأسيسية من دون مراعاة تبعات ذلك على الدولة والمؤسسات.
ويزداد انتقاد الخبراء للدستور مع كل أزمة دستورية تحدق بالبلاد منذ المصادقة عليه، إضافة إلى الخلافات بين السلطات والتي بدت بوضوح بين رأسي السلطة التنفيذية، وخصوصاً بين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد، مع تنازع الرجلين للصلاحيات التنفيذية، فيما بقي البرلمان مكتوف الأيدي عاجزاً عن التدخّل.
كذلك برزت صعوبات تطبيق الدستور خلال أزمة تشكيل الحكومة الحالية بسبب ضعف تمثيل الأحزاب وعدم امتلاك أي حزب أغلبية تخوّله الحكم بمفرده، فيما تزداد الأزمة السياسية تعمّقاً بسبب غموض بنود الدستور وعدم وجود مخارج وحلول فيه تنظّم العلاقات بين رئيس البرلمان ورئيس الدولة ورئيس الحكومة، إلى جانب العلاقات مع القضاء وبقية الهيئات، ما أدى إلى تداخل في الوظائف وتصادم في الصلاحيات.

وطُرحت مسألة التعديل بقوة زمن السبسي، غير أن السياق والإمكانات السياسية لم تسر وفق تطلعاته، ذلك أن حزب "النهضة" يتمسك بحماية الدستور من أي محاولة لتعديله أو تغييره في الوقت الراهن. واعتبر رئيس الحزب، رئيس البرلمان الحالي، راشد الغنوشي، أن الدستور لم يطبّق بعد بشكل كامل، مشيراً إلى أن الدستور ساهم في تجاوز عدة أزمات وصعوبات مرت بها البلاد. وقال الغنوشي في تصريح صحافي، إن الوقت ليس مناسباً للحديث عن تعديل الدستور، مشيراً إلى أن توزيع السلطات واضح في الدستور ويجب أن يلتزم كل طرف بتطبيق ما جاء فيه.


في المقابل، لم يُخفِ الرئيس التونسي قيس سعيّد، خلال حملته الانتخابية وحتى بعد توليه الرئاسة، عدم رضاه عن نظام الحكم وتوزيع السلطات في الدستور، واعتبر أن تعديل الدستور والقانون الانتخابي من بين الحلول الضرورية للبلاد من أجل تحقيق التنمية وخصوصاً التنمية المحلية. وبنى سعيّد جزءاً مهماً من حملته الانتخابية على فكرة تغيير الدستور بوضع آليات جديدة لإعادة السلطة إلى الشعب وخصوصاً على المستوى المحلي، بشكل تصبح القرارات والمقترحات والمشاريع نابعة عنها. وقال، خلال إحياء يوم الشهيد في محافظة القصرين قبل أيام، إنه ما زال على العهد متمسكاً بما تم إعلانه خلال الحملة الانتخابية، منتقداً النظام السياسي وتعطل المؤسسات. كذلك انتقد "تشتت المشهد الانتخابي"، معتبراً أنه لا يمكن الاستمرار على الوضع الدستوري الحالي وأنه حان الوقت لمراجعة الدستور والقانون الانتخابي والانتقال الفعلي إلى الجمهورية الثانية ويكون فيها تنظيم إداري وسياسي يستجيب لمطالب التونسيين، وفق قوله.

وتعليقاً على هذا الموضوع، قال النائب المؤسس عن حزب "النهضة"، نائب رئيس مجلس شوراه، مختار اللموشي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن الإشكال لا يكمن في الدستور الذي حظي بإجماع غالبية الأحزاب والكتل الممثلة في المجلس الوطني التأسيسي (برلمان بعد الثورة) حاكمة ومعارضة بلغت 200 صوت من 217 وهي أعلى نسبة تصويت عرفها المجلس. وأضاف أن الإشكال يكمن في عدم استكمال تطبيق أحكام الدستور وتنفيذ بنوده، على غرار تشكيل المحكمة الدستورية والهيئات الدستورية المستقلة وتنقيح عدد من التشريعات البالية غير المطابقة لدستور الثورة، مشدداً على أن هناك أطرافاً تقف ضد تطبيق أحكام الدستور وتحقيق مقاصده السامية.

ولفت اللموشي إلى أن تعديل القانون الانتخابي كافٍ لتجاوز الصعوبات السياسية التي تمر بها البلاد من خلال خلق توازن داخل البرلمان يمكّن الأحزاب من العمل بشكل أفضل، إلى جانب تنقيح النظام الداخلي للبرلمان الذي سيعطي مرونة أكبر لدفع عمل السلطة الأصلية في البلاد. وأضاف أنه لا يمكن الحكم على نجاعة الدستور وفاعليته مبكراً بقدر ما يجب السير نحو العمل المشترك من أجل تحقيق المصلحة الوطنية للبلاد، منتقداً كل من يسعى إلى ضرب مؤسسات الدولة ومنها البرلمان الذي يعد صمام أمان النظام السياسي، وفق قوله.

ويعاني البرلمان التونسي من قصور دستوري، إذ تحمّله الأطراف السياسية ومنظمات المجتمع المدني مسؤولية عدم تشكيل المحكمة الدستورية بعد مرور ست سنوات على المصادقة على الدستور في 2014. وعلى الرغم من عشرات المحاولات والجلسات التوافقية، فشل البرلمان في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، لتبقى هذه الهيئة القضائية المفصلية معطلة بسبب الخلافات السياسية والمحاصصات الحزبية.

وفي السياق نفسه، عجز البرلمان عن انتخاب أي من الهيئات الدستورية المنصوص عليها في البند 124 من الدستور، ومنها هيئة حقوق الإنسان، وهيئة الاتصال السمعي البصري، وهيئة التنمية المستدامة وضمان حقوق الأجيال المقبلة، وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، لتبقى أربع هيئات من خمس رهينة التنافس البرلماني والترضيات الحزبية.
وعن ذلك، قالت أستاذة القانون الدستوري منى كريم، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن التصويت لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية وأعضاء الهيئات الدستورية الأخرى يتطلب أغلبية معززة تقدّر بـ145 صوتاً على الأقل من أصل 217 نائباً، مضيفة: أراد المشرّع من خلال أغلبية الثلثين ضمان استقلالية ونزاهة وحياد أعضاء هذه الهيئات الدستورية الحساسة عن الانتماء الحزبي والانحياز السياسي. ولفتت إلى أنه لا توجد كتلة أو حزب قادر بمفرده على انتخاب أو تمرير من يراه من المرشحين للمحكمة الدستورية أو الهيئات، بما يجعل الانتخاب عملية صعبة، مشيرة إلى أن هناك مبادرة تشريعية في البرلمان لتقليص الأغلبية المطلوبة للتصويت إلى 109 ولكنها مرفوضة من عدد من الكتل.

وتُعدّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الهيئة الدستورية الوحيدة التي تم تشكيلها ونجحت في تأمين مسار الانتقال السياسي في أكثر من محطة انتخابية منذ الثورة، غير أنها تشهد هذه الأيام خلافات داخلية بين رئيسها وعدد من الأعضاء بسبب اتهامات بالتدخّل السياسي والحزبي في أعمالها.
وما زال البرلمان التونسي إلى اليوم غير قادر على تحقيق ما تضمّنه الدستور من أحكام، على غرار تغيير شعار البلاد الرسمي الذي ينص على إضافة عبارة الكرامة إلى الشعار القديم ليصبح "حرية، كرامة، عدالة، نظام". وحاولت السلطات التونسية تغيير الشعار ولكن النماذج المرسومة كانت دون تطلعات القيادة السياسية للبلاد، ما دفع المتابعين إلى انتقاد أسباب إضافة العبارة في الشعار التي لا تزيد عن كونها تكلفة إضافية بسبب الارتجال.