بوتين ينظّم خلافته: اقتراح التخلي عن النظام الرئاسي مع احتفاظ بالسيطرة

17 يناير 2020
استغنى بوتين عن مدفيديف لرفع شعبية السلطة (ميخائيل سفتلوف/Getty)
+ الخط -
قبل نحو عام ونصف العام من الانتخابات البرلمانية الروسية، وأربع سنوات على استحقاق خروجه من الكرملين حسب الدستور الحالي، فجّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مفاجأة تتضمن إعادة هيكلة نظام الحكم في روسيا عبر التخلي عن النظام الرئاسي القوي، مقترحاً بناء "حكم رئاسي برلماني" يتقاسم فيه مجلس الدوما (البرلمان) ومجلس الاتحاد (الشيوخ) بعض الصلاحيات مع الرئيس المقبل، مع تفعيل مهام ودور مجلس الدولة في الحياة السياسية ضمن صلاحيات ما زالت غامضة، تفتح على احتمالات عدة، تتراوح بين انتقال بوتين إلى "قيصر متوج"، بعد 24 عاماً في حكم روسيا، يتحكّم بإدارة العلاقة بين فروع السلطة وتنفيذ مشاريع كبرى، أو الخروج من السياسة مع تقييد صلاحيات أي رئيس مقبل وتنظيم علاقات واضحة بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وحكام الأقاليم والمقاطعات.

وبعد سنوات من بروزه كقائد عالمي وتثبيت دور روسيا العالمي، يبدو أن "أبا الأمة" قرر الالتفات بقوة إلى الداخل، وأمطر المتذمرين من فقراء روسيا بوعود بمئات المليارات سنوياً لتحسين أوضاعهم المعيشية، وحل الأزمة الديمغرافية العميقة عبر دعم العائلات والأطفال. وفي خطوة تأخرت كثيراً، أقال بوتين رئيس وزرائه ديمتري مدفيديف الذي تراجعت شعبيته كثيراً بسبب تراجع نمو الاقتصاد الروسي، وإقرار إصلاحات نظام التقاعد، ما زاد النقمة الشعبية وفجّر تظاهرات واسعة منذ صيف 2018. واستحدث بوتين لمدفيديف منصباً جديداً يليق برئيس سابق، ولكنه من دون صلاحيات عملية. فالمنصب المقترح هو نائب رئيس مجلس الأمن الروسي لقضايا الأمن والدفاع، وهي صلاحيات للرئيس حسب الدستور. ومعلوم أن المجلس الذي عُيّن فيه مدفيديف هو هيئة ملحقة بمؤسسة الرئاسة، لكنها لا تتبع إدارة الكرملين. وتُعنى الهيئة بإعداد قرارات الرئيس المهمة في مجال سياسات الدولة الداخلية الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى اتخاذ قرارات بهدف حماية الدولة من المخاطر الداخلية والخارجية وضمان الأمن القومي لروسيا. ويدعو الرئيس المجلس للاجتماع والتشاور لإطلاعه على القضايا الحساسة، واتخاذ القرارات المناسبة. ويختار الرئيس المجلس من دون وجود ضوابط محددة لمنصب الأعضاء، وهم على الأغلب من الدائرة الأضيق التي تحظى بثقة بوتين المطلقة، وهي هيئة مختلفة عن مجلس الأمن الذي يقوده نيكولاي باتروشيف رئيس هيئة الأمن الفيدرالي الروسي. ويرى خبراء أن التعيين في هذا المنصب يعد أفضل الخيارات بالنسبة لبوتين الذي لم يفضل أن يدير رئيس سابق مؤسسة حكومية كبرى احتراماً لدور مؤسسة الرئاسة.

في المقابل، اقترح بوتين رئيس مصلحة الضرائب ميخائيل ميشوستين، وهو شخصية "تكنوقراط" وغير معروف في الدوائر السياسية المقربة، لتولي منصب رئيس الحكومة، ما فتح باب التساؤلات حول الدور المستقبلي لآخر رئيس وزراء يسميه بوتين، وفيما إذا كانت مهمته انتقالية للإشراف على صرف تريليونات الروبلات الموعودة، وتحسين الأوضاع الاقتصادية بالاستفادة من تجربته الناجحة في تحصيل الضرائب وتحديث طرق جبايتها باستخدام أفضل التقنيات، أم أن له دوراً مفصلياً في المستقبل قد يستمر إلى ما بعد 2024. وفي غمرة الاهتمام بالقضايا الداخلية، لم يفت بوتين اقتراح تعديل الدستور لإعلاء القوانين والتشريعات الروسية على كافة التفاهمات والاتفاقات الدولية، لتجنّب التدخّلات الأجنبية.

ومن الواضح أن روسيا دخلت مرحلة انتقال كبيرة، أبكر بكثير مما كان متوقعاً، مع عدم استبعاد أن يذهب بوتين إلى تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية جذرية لترك بصمة واضحة في تاريخ روسيا يمكن مقارنتها بإصلاحات القياصرة بطرس الأكبر وألكسندر الثاني، والإمبراطورة كاترينا الثانية، مستغلاً شعبيته الكبيرة التي تظل أعلى بكثير من شعبية الحكام الغربيين، على الرغم من تراجعها في السنتين الأخيرتين.

إصلاحات أم نسف للدستور؟
منذ المؤتمر الصحافي الكبير لبوتين نهاية العام الماضي، كانت مسألة التعديلات الدستورية متوقعة، ولكن المفاجئ هو طرحها بسرعة، وتأثيرها على كافة أجنحة السلطة وطريقة تفاعلها. ومع أن بوتين سعى إلى حسم الجدل حول الحاجة إلى تبنّي دستور جديد أو تعديل الساري حالياً بقوله "أعتقد أنه ليست هناك حاجة لهذا (اعتماد دستور جديد)، وإمكانيات دستور عام 1993 لم يتم استنفادها بعد، وآمل أن تبقى المبادئ الأساسية للنظام الدستوري وحقوق الإنسان والحريات لعقود أخرى قاعدة شاملة صلبة للمجتمع الروسي"، إلا أن رزمة الاقتراحات ترقى إلى نسف الدستور المعمول به حالياً، حسب خبراء، خصوصاً في ظل غموض الفقرة المتعلقة بصلاحيات مجلس الدولة.

وفي خطابه، أوضح بوتين أنه سيتنحى عن منصبه كرئيس، ولو كان في وارد البقاء في منصبه لكان قادراً ببساطة على اقتراح شطب فقرة في الدستور تمنع إعادة الانتخاب لفترتين متتاليتين، وأغلق باب التكهنات والجدل حول مستقبل نظام الحكم بعد 2024. وتكشف التعديلات المقترحة أن بوتين يرتب آليات للتأثير في القرارات اللاحقة، ما يعني عملياً العودة إلى نظام "الكراسي المتحركة" الذي عاشته البلاد ما بين 2008 و2012، حين تبادل مع مدفيديف منصبي الرئاسة ورئاسة الحكومة. ومع أن بوتين أشار إلى أن الظروف التاريخية لعبت عاملاً مهماً في كتابة دستور 1993 بصلاحيات رئاسية واسعة نظراً لأن البلاد شهدت حينها صراعاً كبيراً على السلطة بين البرلمان والرئيس، وكانت مهددة بانفصال بعض الأقاليم والجمهوريات، وأكد أن الظروف تبدّلت الآن، ولا تحتاج إلى نظام رئاسي قوي، فالواضح أن خطابه يناقض تصريحاته المتكررة بأنه ضد الجمهورية البرلمانية وإضعاف مؤسسة الرئاسة، فالمؤشرات الأولية لا توحي بأنه سيقلص من صلاحيات الرئيس المقبل.


وتشي التعديلات التي أطلقها بوتين بأنها لا تهدف إلى تقوية موقفه بعد تركه لمنصب الرئاسة، بل لتثبيت آليات تسمح له بتنظيم خلافاته مع رئيس المستقبل، إن ظهرت، وتحافظ على نهج الدولة الذي أرساه في سنوات حكمه، فالخطاب شدد على أن رئيس الدولة سيبقى القائد الأعلى للقوات المسلحة، والأجهزة الأمنية، كما وسع بعض صلاحيات الرئيس مثل طرح عزل قضاة المحاكم الدستورية العليا أمام مجلس الشيوخ على الرغم من توسيع صلاحيات المحكمة الدستورية، ما يمنح الرئيس آليات جديدة للتأثير على الموقف في حالة حدوث تعارض داخل نظام السلطة.

وتوضح تاتيانا ستانوفايا، الباحثة في مركز كارنيغي – موسكو، في مقال لها، أن "الهدف من الإصلاح الدستوري المقترح هو إنشاء نظام للضمانات المؤسسية للحفاظ على استمرارية التوجّه السياسي السائد اليوم، فالرئيس المقبل لن يتمكن من الحكم لأكثر من 12 عاماً، وهذا يجعل التناوب الدوري في أعلى منصب حتمياً، مما يعني أنه يضع زعيم المستقبل في موقف أكثر اعتماداً على النخبة ويقمع مسبقاً نزعاته الاستبدادية المحتملة". وتخلص إلى أن "رئيس الدولة سيبقى في المستقبل الشخصية المهيمنة في نظام صنع القرار في إطار أكثر صرامة لتنسيق قراراته مع مراكز السلطة الأخرى".

ويرى خبراء أن الإصلاحات تضمن لبوتين الحكم ضمن الصيغة الصينية، لكنها تصلح فقط في مناخ سياسي غير تعددي تكون الهيمنة فيه لحزب واحد على الهيئة الاشتراعية (الدوما والشيوخ)، فالواضح أن جزءاً من السلطات الرئاسية سيتم توزيعها بين مجلس الاتحاد (صلاحيات تعيين قادة أجهزة الأمن)، ومجلس الدوما (صلاحيات تعيين رؤساء الحكومات والوزراء) ومجلس الدولة (مجلس المحافظين والرئيس) بالإضافة إلى الرئيس المنتخب شعبياً. وعلى الأرجح فإن هذا النظام المعقد لتوزيع السلطات يتطلب حزباً قائداً، ومركزاً حقيقياً للإدارة لعدم الغرق في مشاكل بين فروع السلطة، لكنه في الوقت ذاته يسمح لبوتين بالاحتفاظ بالسيطرة الفعلية لفترة غير محددة، مع طرح مجموعة كاملة من الخلفاء المحتملين الذين سيتنافسون فيما بينهم.

توفير الأرضية لنقل السلطة
ومن أجل رفع شعبية السلطات، يبدو أن بوتين قرر الاستغناء عن خدمات مدفيديف الذي تراجعت شعبيته كثيراً وبات مرفوضاً شعبياً ومن قِبل شريحة واسعة من النخب السياسية، بهدف توفير ظروف مريحة لنقل السلطة، في ظل حد أدنى من المقاومة، وتكاتف النخبة ودعم المجتمع، وليس من قبيل الصدفة أنه حاول استرضاء المواطنين عبر سخاء غير مسبوق على الشرائح الاجتماعية الضعيفة. ومن الواضح أن قرارات الدعم الاجتماعي والمالي للأسر محدودة الدخل وللأطفال حتى 2026، التي وصفها رئيس غرفة الحسابات الروسية أليكسي كودرين بأنها "الأعلى تكلفة" في تاريخ البلاد، تهدف إلى رفع شعبية بوتين لتمكينه من الإصلاحات، وفي الوقت ذاته إنقاذ حزب "روسيا الموحدة" بعد تراجع شعبيته، وخسارته في الانتخابات المحلية العام الماضي. بوتين كشف في خطابه عن تمديد الدعم المالي للأسر حتى العام 2026، مع رصد زيادات ملحوظة في المدفوعات المالية لهم، وتعميمها لتشمل الأطفال حتى سن السابعة، بعد أن كانت مقتصرة على الأطفال بعمر أقل من 3 سنوات، بالإضافة إلى تحسينات في مرافق رعاية الأطفال وتلاميذ المدارس، مع منحهم وجبات ساخنة مجانية حتى الصف الرابع، ورفع قيمة منحة الأمومة التي كانت ترصد للأسر عند ولادة الطفل الثاني من 450 ألف روبل (نحو 7300 دولار) إلى 650 ألفاً (نحو 10500 دولار)، وتعميمها على حالات ولادة الطفل الأول.

وتعليقاً على القرارات الرئاسية، قال رئيس غرفة الحسابات الروسية، أليكسي كودرين، إن تنفيذ كل المقترحات التي طرحها بوتين يتطلب نفقات هائلة، موضحاً أن "التدابير التي تم الإعلان عنها باهظة الثمن، وسوف تتطلب ما يتراوح بين 400 و500 مليار روبل في السنة"، مؤكداً أن هذا الأمر سيتطلب "العثور على موارد إضافية تتراوح بين 0.4 و0.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي".
وعلى الرغم من عدم وجود يقين حول مدة حكومة ميشوستين، أو دوره في الحكم بعد 2024، فإن المراهنة الرئيسية بالنسبة لبوتين هي تحسين النمو الاقتصادي ورفعه إلى أعلى من المتوسط العالمي ليصل إلى 5 في المائة في 2026 اعتماداً على تجربة ميشوستين الرائدة في مجال التحصيل الضريبي، وتقليص حجم اقتصاد الظل. وفي حين يرى خبراء أن الرجل "التكنوقراط" سيقود حكومة انتقالية، يقول المحلل السياسي أليكسي ماكاركين في تعليق لـ"غازيتا رو" إن رئيس الوزراء الجديد "سيدير أموالاً كبيرة ويتبع سياسة شعبية للغاية: توزيع البدلات للأطفال للأسر الفقيرة، وتنظيم وجبات إفطار ساخنة مجانية لأطفال المدارس، على عكس مدفيديف، المرتبط بإصلاح المعاشات التقاعدية بين السكان"، بالإضافة إلى ذلك، "ينبغي إطلاق مشاريع وطنية جديدة ستخلق زخماً للنمو... أنا لا أستبعد أن ميشوستين قد يصبح رئيس وزراء سياسيا مع احتمال الخلافة".

تعديلات لتأمين الاستقرار
وكان لافتاً أن بعض التعديلات الجديدة التي اقترحها بوتين لا تتعلق بالسلطة الرئاسية، بل تهدف أيضاً إلى الحد من مخاطر زعزعة الاستقرار والتخفيف من التأثير الخارجي على الوضع السياسي الداخلي في روسيا، إذ اقترح تطبيق مبدأ سيادة القانون الروسي على القانون الدولي، ومنع ترشح أي روسي للمناصب السياسية في البلاد في حال لم يعش في روسيا في الـ25 سنة الأخيرة، أو في حال امتلاكه جنسية أجنبية، أو حتى إقامة دائمة أو مؤقتة.
ومن المؤكد أن التعديلات المقترحة من بوتين فتحت باب النقاش والتكهنات حول مستقبل روسيا في السنوات المقبلة، وطبيعة الحكم ودوره فيه بعد 2024، لكن كثيراً من الغموض سينجلي بعد معرفة الدور المنوط بمجلس الدولة الذي يمكن أن يصبح سلطة دستورية، قد تكون من صلاحياته المبادرة بطرح التشريعات، وكذلك المشاركة في تعيين المحافظين. فالمجلس الذي أنشأه بوتين منذ بداية حكمه لتعويض المحافظين عن إبعادهم من مجلس الاتحاد، كان خاملاً طوال 17 عاماً، وكانت وظيفته الحقيقية إعطاء المحافظين الفرصة للجلوس على طاولة واحدة مع الرئيس والمشاركة في المشاريع الرئاسية، لكنه منذ مايو/أيار 2018، بات أكثر فاعلية باهتمام واضح من الكرملين. وفي حال الفصل مستقبلاً بين منصبي الرئيس ورئيس مجلس الدولة مع زيادة صلاحيات المجلس، يمكن أن يضمن بوتين مكاناً مريحاً للإشراف على الأوضاع في روسيا، فالمجلس يضم كل المؤسسات الرئيسية من الإدارة الرئاسية، والحكومة والوزراء، والمحافظين، وقيادة "روسيا الموحدة"، وحتى رؤساء الشركات الحكومية ومصارف الدولة. وحتى الكشف عن صلاحيات مجلس الدولة المستقبلية، تبقى التكهنات قائمة حول أهداف بوتين من الإصلاحات الدستورية المقترحة.

المساهمون