فرنسا في ورطة حقيقية في دول الساحل ليس فقط لأن الجماعات المسلحة تواصل هجماتها، بل أيضا لأن الرأي العام في دول مثل بوركينا فاسو ومالي بدأ يُعبّر صراحة عن رفضه لوجود القوات الفرنسية.
وبات متظاهرون غاضبون، ومن بينهم نواب من الأغلبية الحكومية في مالي، يعتبرون القوات الفرنسية قوة "احتلال" أي "قوة نيو- كولونيالية" ويطالبون برحيلها، ويُحرقون الأعلام الفرنسية، ويرشقون الدوريات الفرنسية بالحجارة كما حصل، الإثنين حين تظاهر أكثر من ألف شخص في باماكو ضد الوجود الفرنسي.
ويَعرف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي بدا متأثِّراً بموقف المتظاهرين المطالبين برحيل القوات الفرنسية، أن الوضع بالغ الصعوبة، حيث قتل سنة 2019 أربعة آلاف شخص وهُجِّر أكثر من مليون شخص، رغم أنه حاوَل، يوم 21 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، من دولة كوت ديفوار، طمأنة مواطنيه بـ"أخبار سعيدة"، حين تحدَّث عن تصفية 33 "إرهابيا"، وتحدثت وزيرة الجيوش الفرنسية عن بدء استخدام القوات الفرنسية لمسيَّرات أميركية الصنع تم تحويلها، أخيرا إلى مسيّرات قتالية قادرة على إطلاق قنابل موجهة بالليزر وأيضا صواريخ على الجهاديين في الصحراء.
الحربُ مُكلفةٌ لفرنسا وقد خسرت فيها 44 جندياً من بينهم 31 جندياً منذ انطلاق عملية برخان.
وفي هذه الظروف يأتي هذا اللقاء بين الرئيس الفرنسي وقادة دول مجموعة الساحل الخمس، مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو وموريتانيا، والذي انتقده عشرات من الأفارقة الذين تظاهروا في مدينة بو، معتبرين قدوم القادة الأفارقة إلى فرنسا بمثابة استفزاز من طرف ماكرون.
وجاء اختيار مدينة بُو لكونها فقدت سبعة من بين الجنود الفرنسيين الذين قَضَوا في مالي في حادث تصادم طائرتي هليكوبتر، يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أثناء عمليات عسكرية ضد الجهاديين. وتميز هذا اللقاء الفرنسي الأفريقي بحضور الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، ورئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فكي، والأمينة العامة للفرنكوفونية، لويز موشيكيوابو.
في هذه الظروف الصعبة يريد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي أعلن من قبل أن كل الاحتمالات واردة، أي بما فيها الانسحاب، إعادة تحديد "المهمة" الفرنسية في الساحل، أي إيضاح الإطار السياسي والاستراتيجي للانخراط الفرنسي في هذه الحرب ضد الإرهاب.
وهو ما يمرّ عبر التزام سياسي واضح من القادة الأفارقة بدعم هذا الوجود في ظل مواقف رأي عام رافض للوجود الفرنسي، وأيضا بانخراط أكبر في مسرح العمليات، وهنا تتحدث وسائل إعلام فرنسية عن نقص الإرادة السياسية في هذه الدول وغياب كفاءة جنرالاتها، وضعف التجهيزات في القواعد العسكرية وفي المدن، وكذلك ضعف قتالية جنود يعانون من سوء التدريب والتسليح وبمرتّبات هزيلة والقادرين أحيانا على توجيه سلاحهم نحو المدنيين.
ويُراهن الرئيس الفرنسي، إلى جانب تحديد خريطة طريق مشتركة من خلال عملية "برخان"، على الدفع إلى الأمام بعملية "تاكوبا"، وهي عبارة عن قوات أوروبية خاصة (إستونيا وبلجيكا والدنمارك وتشيكيا)، تحت قيادة فرنسية، قد تكون جاهزة لمطاردة الجهاديين في صيف 2020، ولكن مع غياب ألمانيا.
ولا شك في أن الفرنسيين أصيبوا بنوع من الخيبة بسبب احتمال الانسحاب الأميركي جزئيا أو كليّا من غرب أفريقيا، وبالتحديد من قاعدة نيامي بالنيجر.
وقد تمخض لقاء يوم الإثنين عن "إعلان مشترك"، عبّر فيه القادة الأفارقة، كما كانت عليه الرغبة الفرنسية، عن "أملهم في مواصلة فرنسا لوجودها العسكري في الساحل". وكما تريد فرنسا وتأمُل، طَالب القادة الأفارقة، أيضا، بتعزيز الحضور الدولي في المنطقة.
ويأتي هذا البيان ليُخرِج فرنسا من عزلتها، وهو دعم ضروري بعد أن اغتاظ المسؤولون الفرنسيون علنًا، من التظاهرات المعادية لبلادهم، وخصوصا في مالي.
وقد أكد الرئيس الفرنسي بعد نهاية اللقاء المغلق مع نظرائه الأفارقة، حصول منعطف جديد وعميق في لقاء مدينة بو، وفق خارطة طريق جديدة وواقعية جدا، خصوصا بعد سلسلة من الخسائر تعرضت لها بعض هذه الدول، وخاصة النيجر، التي فقدت يوم الخميس الماضي، فقط، 89 جنديا. وهو ما يعني أن فرنسا باقية في المنطقة، ولهذا السبب أعلن الرئيس ماكرون عن قرب إرسال 220 جنديا فرنسيا لتعزيز عملية برخان، في ظل تنافس بين داعش والقاعدة على بسط نفوذهما.
كما تمخضت القمة عن إنشاء إطار جديد وهو "تحالف الساحل"، وهو تحالفٌ يضم مجموعة الخمس (التي لا تزال هشة وعاجزة عن مجابهة الجهاديين رغم الإعلان عن تأسيسها قبل سنتين)، إضافة إلى عملية برخان وأيضا الشركاء وخصوصا الأوروبيين الذين عبّروا عن رغبتهم في إرسال قوات عسكرية إلى الساحل.
ووجهت القمة نداءات من أجل تطبيق وعود بروكسل سنة 2018، وأيضا الوعود المالية التي كانت تهدف لجمع 400 مليون يورو، والتي لا تزال تنتظر الوعد السعودي بالتبرع بـ100 مليون يورو تم تجميدها بشكل مفاجئ.