عامان على قمع "الصحوة" السعوديين: الملك دعمهم وابنه سحقهم

24 سبتمبر 2019
أعلن بن سلمان أنه سيدمر "تيار الصحوة" فوراً(فرانس برس)
+ الخط -
مر عامان على حملة الاعتقالات التي شنها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ضد رموز وأفراد "تيار الصحوة"، أكبر تيار ديني في البلاد، والتي عرفت باسم "حملة سبتمبر"، وسط تعرض الكثير من المعتقلين للتعذيب والمعاملة القاسية داخل السجن، ومحاكمة عدد قليل منهم ومطالبة النيابة العامة بإعدامهم. وبعد استتباب الأمر لصالح الملك سلمان، وسيطرة ابنه على الحكم بعد صعوده لكرسي ولاية العهد على حساب ابن عمه الأمير محمد بن نايف، في يونيو/ حزيران العام 2017، تم تنفيذ حملة منظمة لاعتقال جميع رموز "تيار الصحوة" والمتعاطفين معه، من كتاب وصحافيين وروائيين ومذيعين، وحتى خبراء اقتصاديين في سبتمبر/ أيلول 2017. وبدأت الحملة باعتقال الداعية الإسلامي سلمان العودة، ثم الداعية عوض القرني، والداعية علي العمري، قبل أن يتم اعتقال الخبير الاقتصادي عصام الزامل، والإعلاميين فهد السنيدي ومساعد الكثيري والعشرات من أفراد الصف الثاني والثالث من "تيار الصحوة". كما منع النظام السعودي بقية رموز التيار من الخطابة والكتابة والظهور في وسائل التواصل الاجتماعي. وقام بإجبار عدد من الدعاة، الموالين له أصلاً، بالتوقف عن الحديث في الشأن العام، قبل أن يقوم بجولات اعتقال أخرى لعلماء، مثل ناصر العمر وسفر الحوالي. وقال محمد بن سلمان، بعد شهر واحد من اعتقالات "حملة سبتمبر"، إنه "سيدمرهم الآن وفوراً"، وذلك خلال مؤتمر الاستثمار السعودي في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، في إشارة إلى "تيار الصحوة"، محملاً إياه مسؤولية التطرف في البلاد.

ولم تكتفِ السلطات بحملات الاعتقال العنيفة بحق رموز وأفراد التيار، بل إن وزارة التعليم أصدرت أوامر بتشكيل لجان تحقيق بحق الأساتذة في الجامعات والمدارس، والتحقيق معهم بشأن وجود شبهات في انتمائهم إلى "الصحوة". وتعرض رموز "تيار الصحوة" لحملات تعذيب، أشرفت عليها فرق أمنية متخصصة، إذ قال نجل سلمان العودة، عبد الله، في مقابلة مع قناة "بي بي سي"، إن والده تعرض للتعذيب عبر حرمانه من تناول أدويته العلاجية، كما أنه حرم من النوم لأيام متتالية، ويتم تقييد يديه ورجليه ووضع عصبة على عينيه داخل الزنزانة، ويرمى له الأكل والطعام في أكياس صغيرة، وهو مقيد اليدين حتى يضطر لفتحها بفمه، ما أدى إلى تضرر أسنانه. كما تعرض الداعية علي العمري للتعذيب على يد فرقة أمنية، يقودها المستشار السابق في الديوان الملكي سعود القحطاني، وفق ما ذكر "حساب معتقلي الرأي"، المهتم بالحالة الحقوقية في البلاد على موقع "تويتر".

وقامت السلطات السعودية، بعد عام على "حملة سبتمبر"، بمحاكمات سرية لعدد قليل من رموز "الصحوة"، كان أبرزهم العودة والعمري وعوض القرني، حيث طالبت النيابة العامة بإعدامهم، ووجهت لهم 37 تهمة، أبرزها "الإرجاف في الأرض" و"الانضمام إلى تنظيمات إرهابية محظورة" و"عدم الدعاء لولي الأمر". لكن وضع العودة والقرني والعمري يعد أفضل بكثير من وضع المئات من معتقلي "تيار الصحوة"، الذين لا تعرف عائلاتهم أماكن وجودهم واعتقالهم فضلاً عن عدم توجيه السلطات أي تهم لهم. وبات "تيار الصحوة" بعد حملة الاعتقالات العنيفة تحت مرمى النيران الحكومية، حتى أن الصفوف الشابة من أفراد هذا التيار إما خرجت من البلاد، بحجة الدراسة أو التجارة، أو أنها انصرفت إلى شؤونها الخاصة. لكن مراجل التيار تغلي، بحسب الخبراء، منتظرة أي لحظة للانفجار والظهور إلى العلن، إن كان بسبب الحملة الأمنية العنيفة على "الصحوة"، أو حاجة النظام السعودي التاريخية للتيارات الدينية لتعود للساحة بشكل سلمي، مرة أخرى، كما حدث في ستينيات القرن الماضي.

وكان رموز "تيار الصحوة" قد استبشروا بتولي الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الأمور خلفاً للملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، خصوصاً أن سلمان كان أحد أبرز الداعمين للتيار خلال ثمانينيات القرن الماضي، كما أنه كان يدعم التيار سراً خلال فترة تولي الملك عبد الله مقاليد الحكم. واستدعى سلمان رموز "تيار الصحوة"، وبينهم علماء خليجيون مقربون من جماعة "الإخوان المسلمين"، وأكد لهم أن هناك عهداً جديداً في البلاد، وتخلياً عما سمّاه "المنهج الليبرالي" الذي اتبعه من سبقه، في إشارة للملك عبد الله. ودعم "تيار الصحوة" الملك سلمان بكل قوة في حربه على اليمن، والتي شنها تحت اسم "عاصفة الحزم"، في مارس/ آذار 2015. كما أن رموز التيار توقعوا تقريب الملك سلمان لهم، إذ إن سلمان العودة خرج في لقاء تلفزيوني منتصف العام 2015، ليقول إن "قواعد اللعبة تغيرت"، في إشارة لذهاب زمن الملك عبد الله الذي ضُيّق فيه على الخطاب الصحوي.

لكن سرعان ما اتضح أن الأمور تسير في الاتجاه المعاكس. ولا يمكن فهم أسباب ودوافع "حملة سبتمبر" دون فهم الجذور التاريخية لنشأة الدولة السعودية الحديثة على يد الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود قبل أكثر من قرن، ونشأة "تيار الصحوة" قبل أكثر من 40 سنة، حيث ارتبط اسم الأسرة الحاكمة باستغلال الدعوة الوهابية والعاطفة الدينية ثم الانقلاب عليها والتبرؤ من دعمها. وتأسست الدولة السعودية عبر تحالف بين الملك عبد العزيز آل سعود وجيشه، المكون من أهل القرى النجدية الموالين له من جهة، وجماعة إسلامية قوامها القبائل التي تعتنق الوهابية بصبغتها المتشددة، وتسمى "إخوان من طاع الله"، بقيادة فيصل الدويش، شيخ قبيلة مطير، إحدى أكبر قبائل الجزيرة العربية، من جهة أخرى. وساهمت جماعة "إخوان من طاع الله" المتشددة بشكل رئيسي في سيطرة الدولة السعودية، التي كانت تبسط نفوذها على الرياض وبعض قرى نجد آنذاك، على الإحساء وإقليم الحجاز وإخراج دولة الأشراف منها، وعلى حائل وإسقاط دولة آل رشيد، المنافس الرئيسي والتاريخي لآل سعود في إقليم نجد، وتوحيد البلاد بشكل نهائي، وسط وعود من عبد العزيز بحصول قادة الجماعة على إمارة بعض المناطق، كمكافأة لهم على مساهمتهم الرئيسية في توحيد البلاد.

لكن الملك عبد العزيز آل سعود قرر الانقلاب على الجماعة، وأعلنها خارجة عن القانون، وطارد أفرادها المنتشرين في كل مكان بحجة أنهم يهددون وحدة واستقرار البلاد. ووضع أسماء قادتها على قوائم المتمردين، ما أدى إلى تمرد كبير قامت به القبائل العربية الموالية للدعوة الوهابية، بقيادة فيصل الدويش في مؤتمر عرف بـ"مؤتمر الأرطاوية" (مدينة تتبع منطقة الرياض)، في العام 1926، أعلنوا فيه صراحة أن عبد العزيز قام باستغلال العاطفة الدينية لهذه القبائل أثناء حروبه المستمرة، وأنه تخلى عنها وتبرأ منها بعدما استتبت الأمور لصالحه. ولم تنكسر شوكة التمرد الكبير إلا عبر "معركة السبلة" (في العام 1929) الفاصلة، حيث انتصر عبد العزيز، مدعوماً بالمدافع البريطانية، على قوات القبائل المتمردة بقيادة فيصل الدويش الذي فر إلى العراق والكويت، قبل أن يلقي البريطانيون القبض عليه ويسلموه للملك، ليتوفى داخل السجن في ظروف غامضة في العام 1931، لينهي بذلك أول ثورة مسلحة كبرى في تاريخ البلاد الحديث.

وبعد سنوات، اعتبرت الأسرة الحاكمة أن الدولة تتعرض للتهديد من قبل التيارات اليسارية والقومية، أثناء المد القومي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ما دفع الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز لفتح الباب على مصراعيه أمام الجماعات الإسلامية الموجودة في مصر وسورية للقدوم إلى السعودية ونشر أفكارها المضادة للتيارات القومية واليسارية في الصحف والمجلات السعودية. ونما هذا التيار ليتحول إلى قوة ضاربة داخل الساحة السعودية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي تحت اسم "تيار الصحوة"، حتى أصبح التيار الوحيد الذي يهيمن على الأنشطة الاجتماعية والثقافية. وزادت السلطات السعودية دعمها للتيار أثناء الحرب الأفغانية، حيث غادر الآلاف من السعوديين المتعاطفين مع الأفغان لمحاربة السوفييت بدعم من الملك سلمان شخصياً، والذي كان أمير الرياض وقتها، والمكلف الرسمي بتولي ملف دعم أفغانستان من قبل النظام السعودي. وكان من بين أبرز المغادرين رجل الأعمال أسامة بن لادن، الذي سيتحول إلى زعيم تنظيم "القاعدة" لاحقاً، والذي قتلته قوة أميركية في باكستان.

لكن صداماً سياسياً حدث بين النظام السعودي ورموز "تيار الصحوة" عند دخول القوات الأميركية للبلاد في العام 1991، في إطار عملية التحالف الدولي لتحرير دولة الكويت من الغزو العراقي، حيث أصدر علماء "الصحوة"، وعلى رأسهم سلمان العودة وسفر الحوالي وعوض القرني، فتاوى تؤكد حرمة وجود قوات أجنبية على الأراضي المسلمة، ما أدى إلى مواجهة مفتوحة بين النظام ورموز التيار، لم تنته إلا بسجنهم في العام 1994، لمدة 5 سنوات، من دون محاكمة. لكن هذه الأحداث لم تؤد إلى اضمحلال "تيار الصحوة"، إذ أجرى الكثير من رموزه إعادة نظر بأفكارهم تجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتبنوها كمنهج سياسي وإصلاحي على ما يقولون. كما تبنوا منهج التغيير السلمي ومهادنة النظام والحكومة، ما أدى لاستمرار "الصحوة" كتيار ديني يقدم بعض رموزه سردية سياسية مخالفة للنظام وغير معادية له في الوقت ذاته. كما أنه تحول إلى داعم أساسي للربيع العربي في العام 2011، ما هدد سلطة النظام السعودي بعض الشيء. وعاد الشقاق الواضح بين النظام و"تيار الصحوة" مرة أخرى في 2013، حين دعم النظام السعودي الانقلاب العسكري ضد الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، وساهم في المجازر التي ارتكبها الجيش المصري ضد المحتجين في الميادين، وأبرزها "رابعة العدوية". واتخذت السلطات السعودية بزعامة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز عدداً من الإجراءات، أبرزها استدعاء رموز التيار، والطلب منهم عدم الحديث عن مجزرة ميدان رابعة العدوية، وحجز بعضهم لأيام قليلة من دون أي سند قضائي، كما هو الحال مع الداعية الإسلامي محمد العريفي، فيما انتقلت الحملة على التيار إلى مرحلة جديدة مع وصول محمد بن سلمان إلى منصب ولي العهد.

المساهمون