"الانتخاب الذكي" يطيح مرشحي بوتين: المعارضة الملاحَقة تبدأ التغيير

11 سبتمبر 2019
لم يتجاوز الإقبال على الانتخابات الـ22 في المائة (Getty)
+ الخط -
فتحت نتائج الانتخابات المحلية في روسيا الباب باكراً أمام الحملة الانتخابية لانتخابات مجلس الدوما (البرلمان) الروسي في 2021، وكيفية التعامل مع استحقاق نهاية فترة الرئيس الحالي فلاديمير بوتين الرابعة والأخيرة، حسب الدستور الروسي. ومع نجاح حملة "التصويت الذكي" في استثمار الاحتجاجات الشعبية في الشارع، ونقلها إلى صناديق الاقتراع، ما زعزع مواقع حزب "روسيا الموحدة" الحاكم، فإنه من المنتظر أن يسعى الكرملين إلى رسم استراتيجية جديدة للتعامل مع الانتخابات العامة في 2021 تمكّنه من المحافظة على الأغلبية الدستورية (أكثر من ثلثي الأعضاء)، لتمرير مخططاته ما بعد 2024. ومن غير المستبعد أن تفتح "نكسة" الحزب الحاكم في الانتخابات الحالية على تغييرات جذرية في النظام الحزبي للبلاد، وقد تصل إلى تغيير النظام الانتخابي البرلماني. ووجهت نتائج الانتخابات ضربة قاسية جديدة لحزب "روسيا الموحدة" الحاكم، الذي خسر نحو ثلث مقاعده في مدينة موسكو، ولم يستطع الفوز إلا بمقعدين في خباروفسك في أقصى شرق روسيا، مقابل اكتساح الحزب الليبرالي الروسي 36 مقعداً، وحصول الحزب الشيوعي على ثلاثة مقاعد.

وأفلحت حملة "التصويت الذكي" التي قادها المعارض الأشرس للكرملين أليكسي نافالني في كسر هيمنة حزب السلطة على البرلمان المحلي في موسكو. ونجح 19 مرشحاً دعا نافالني الناخبين إلى التصويت لهم بهدف إسقاط مرشحي "روسيا الموحدة"، الذي حصل على 26 مقعداً بعد خسارة ثلث مقاعده لحساب الشيوعيين وحزب "روسيا العادلة" وحزب "يابلوكو" (التفاحة) اليميني المعارض. وكشفت نتائج الانتخابات، والحملة التي سبقتها، عمق الأزمة التي يشهدها الحزب الحاكم. فقد مُني مرشحوه بخسائر كبيرة رغم تقدمهم للانتخابات كمستقلين بعد تراجع شعبية الحزب الكبيرة في السنتين الأخيرتين. وكان آخر استطلاع للرأي أعده "فيتسوم" (مركز دراسة الرأي العام)، بداية الشهر الحالي، كشف أن شعبية "روسيا الموحدة" تراجعت إلى 32.8 في المائة، رغم خوضه الحملة الانتخابية الحالية في الأقاليم والمناطق، وبينها موسكو وعاصمة الشمال الروسي سان بطرسبورغ.

ومع تراجع شعبية "روسيا الموحدة"، لجأ مرشحوه المحليون للقفز من مركب الحزب المشرف على الغرق، بعد إجبار نواب الحزب على التصويت لصالح رفع السن التقاعدية، ودفاع المسؤولين في الأقاليم والمناطق عن سياسة الكرملين. لكن هذا التكتيك لم ينجح في إنقاذهم من التصويت الاحتجاجي ضد السلطة الذي ساهم في فوز مرشحين من باقي الأحزاب. وحتى أن رئيس فرع "روسيا الموحدة" بموسكو أندريه ميتيلسكي لم يتمكن من الفوز في دائرته، على الرغم من خوضه سباق الانتخابات كمرشح "مستقل". كما عزا خبراء تراجع نتائج "روسيا الموحدة" إلى تباطؤ نمو الاقتصاد الروسي بسبب العقوبات الغربية المفروضة على البلاد، منذ ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014، بالإضافة إلى تراجع مستوى الخدمات، وسوء الرعاية الطبية، والأزمات البيئية المتتالية، بسبب مكبات النفايات والتلوث.

ومع إشارته إلى تلاعب في النتائج لإنقاذ مرشحي السلطة في موسكو أثناء فرز الأصوات، أكد نافالني نجاح حملة "التصويت الذكي". ونشر على موقعه الإلكتروني "رسالة تهنئة" إلى الشعب الروسي، قال فيها إن "النتائج شكلت التجربة الأولى لعمل جماعي مُعقد ومُنظم، ليس فقط من طرف ناشطين، بل ومن طرف الناخبين أنفسهم، وهذا هو الأهم". وفي المقابل أشار عمدة موسكو سيرغي سوبيانين إلى أن الانتخابات في العاصمة كانت "الأكثر عاطفية وتنافسية في التاريخ الحديث". وفي محاولة لقبوله بنتائج التصويت، قال "كانت المشاعر جادة. ونتيجة لذلك، بالإضافة إلى القفزة القوية من الشيوعيين، ظهرت مجموعة من الأحزاب مثل يابلوكو وروسيا العادلة في البرلمان. وأصبح مجلس الدوما أكثر تنوعاً من الناحية السياسية، وهو ما آمل أن يفيد برلمان المدينة عموماً".


أما الكرملين فحاول التقليل من تأثير "التصويت الاحتجاجي" في خسارة حزب "روسيا الموحدة" في برلمان موسكو. ونفى الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أي علاقة بين تعامل السلطات مع التظاهرات غير المرخص لها قبل الانتخابات مع فقدان "روسيا الموحدة" ثلث مقاعده. وفي تبريره لضعف الإقبال على الانتخابات في موسكو، والذي لم يتجاوز حسب اللجنة المركزية للانتخابات 22 في المائة، قال بيسكوف إن "التقلبات في الأرقام أمر ممكن في الانتخابات". وأضاف "من الخطأ الجسيم استخلاص استنتاجات معينة من ذلك".

وبعيداً عن تقديرات الحكومة والمعارضة، رأت صحيفة "كوميرسانت" أن "انتخابات موسكو أثبتت أن المعارضة المنظمة تستطيع قيادة الاحتجاج". وقال الخبير في علم الاجتماع السياسي أليكسي فيرسوف إن الانتخابات الحالية تختلف عن سابقاتها، مشيراً إلى أن "تحقيق نتائج بات أصعب، ويتطلب من النخب الحاكمة تعبئة كاملة، ويتطلب جهداً إضافياً مع ازدياد الشعور بالقلق والتوتر، ما دفعها إلى اللعب على حافة الهاوية، مُغامرة بشرعية الحزب الحاكم الذي غابت شعاراته عن الحملة الانتخابية، ما يمثل حال ضعف للسلطات". وأضاف فيرسوف أن "النتيجة الأهم في الانتخابات الحالية هو تحولها إلى استفتاء على ثقة الشعب بالسلطات".

ومع نجاح حملة "التصويت الذكي" التي طُرحت تزامناً مع الاحتجاجات الشعبية، بعد رفض ترشيح أكثر من 40 مرشحاً ليبرالياً، بدا واضحاً فشل استراتيجية السلطات في التعامل مع احتجاجات موسكو، ما يجبر النخب الحاكمة على تبني خطط بديلة في الانتخابات العام المصيرية لمستقبل نظام الحكم في 2021. وحسب الدكتور في العلوم السياسية ألكسندر بوغالوف فإن "لعبة روسيا الموحدة لإدخال ليبراليين ورجال أعمال، تستطيع السلطات السيطرة عليهم في القضايا المصيرية، فشلت في موسكو، ولهذا فإن محاولات الكرملين للدفع بتشكيل حزب يميني ليبرالي في انتخابات 2021 سوف تفشل".

ورغم أن تأثير البرلمانات المحلية محدود في النظام السياسي الذي بناه بوتين منذ صعوده إلى الكرملين قبل 20 عاماً، يفتح نجاح المعارضة الليبرالية في إحداث تغيير، وتوظيف الاحتجاجات في صناديق الانتخاب، على تغيرات كبيرة في المشهد السياسي الروسي في المستقبل. فقد تلقى حزب "روسيا الموحدة " ضربة موجعة أخرى بعد إخفاق مرشحيه في كسب الشارع، رغم رفعهم شعارات جديدة والترشح كمستقلين. وتضاف هذه الضربة إلى أخرى وجهها له قائده وزعيمه بوتين في 2018 عندما قرر أن يكون "أباً للأمة" ويترشح فردياً بجمع تواقيع من الشعب. ومن غير المُستبعد أن يعمد صناع السياسة الداخلية في الكرملين إلى استغلال الأغلبية الدستورية في مجلس الدوما الروسي من أجل تمرير تعديلات جديدة تتضمن تغيير القانون الانتخابي المبني على انتخاب نصف أعضاء الدوما من القوائم الحزبية والنصف الثاني بنظام الدوائر الفردية، بهدف ضمان الأغلبية الدستورية التي تمكن "القيصر" من حكم روسيا، في حال قرر أن البلاد ما زالت في حاجة إلى خدماته إلى الأبد.

وبغض النظر عن التقويمات المختلفة لنتائج الانتخابات المحلية، فإن الخلاصة الأهم تكمن في أن الانتخابات العامة المقبلة لن تكون سهلة بالمطلق بالنسبة للكرملين، وقد تفتح على تغيرات في النظام السياسي والحزبي الروسي، مع إثبات المعارضة قدرتها على التغيير. ومن المؤكد أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ستشكل عامل ضغط إضافي على "روسيا الموحدة"، ما قد يقوده إلى مصير مشابه لأحزاب سبقته، مثل "روسيا بيتنا"، أسستها السلطات لدعمها، لكنها انتهت مع تراجع شعبيتها.

المساهمون