تمثل الصين التحدي الأكبر لرئاسة دونالد ترامب، لأن المعركة الناعمة المفتوحة معها تختصر شعاراته الانتخابية التي تعتبر القومية الأميركية الحجر الأساس في النظرة إلى التجارة العالمية. ومن بين كل الملفات الخارجية على طاولة ترامب، وحدها بكين قادرة على الضرر بمصالحه الانتخابية، وبالتالي هناك تساؤلات مفتوحة إذا ما سيكون هناك اتفاق أميركي-صيني في المدى المنظور، أم ستستمر هذه الحرب الباردة بين أكبر اقتصادين في العالم، حتى موعد ذهاب الأميركيين إلى صناديق الاقتراع العام المقبل؟
على عكس ترامب، الرئيس الصيني شي جينبينغ ليس لديه هاجس انتخابات رئاسية مقبلة، ويبدو مستعداً للتسبب بانكماش اقتصادي صيني وعالمي ليقوّض فرص فوز الرئيس الأميركي الحالي حتى لا يخضع لضغوطه المستمرة بتعديل مقاربة بكين حيال التجارة الدولية. الرئاسة الصينية يبدو كأنها تفضل رئيساً ديمقراطياً قد يكون أسهل التوصل إلى اتفاق معه أو معها، حول دينامية التجارة الثنائية بين البلدين. ولهذه الغاية كل "الأسلحة التجارية" أصبحت متاحة في هذه المعركة، التي تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات، على الرغم من أن هناك ضبطاً لإيقاعها حتى الآن، حتى لا تخرج عن طورها. ويعود ذلك إلى العلاقة الشخصية بين ترامب وجينبينغ، والأهم من ذلك إلى توازن الرعب أو الخشية من تداعيات أكبر على اقتصاد البلدين.
مر عام ونصف العام على هذه الحرب التجارية، وآخر هدنة بين واشنطن وبكين تم الإعلان عنها على هامش قمة مجموعة العشرين في اليابان قبل نحو شهرين. الأسبوع الماضي عاود الطرفان محادثات تجارية في شنغهاي، وصفها البيت الأبيض بأنها "بناءة"، لكن وبشكل مفاجئ، بعد تقديم وزير الخزانة ستيف مينوشين إيجازاً للرئيس الأميركي حول هذه المحادثات، في 1 أغسطس/آب الحالي، أعلن ترامب، في تغريدة، فرض 10 في المائة من الرسوم على 300 مليار دولار من البضائع والمنتجات التي تستوردها أميركا من الصين. أما باقي الواردات الصينية، أي 250 مليار دولار، فقد كانت واشنطن فرضت عليها سابقاً 25 في المائة من الرسوم.
بكين ردت عبر إعلان وقف شراء المنتجات الزراعية الأميركية، وبخفض قيمة اليوان لأدنى مستوى منذ 10 سنوات، لتصعد إدارة ترامب مرة أخرى وتعلن أن الصين "دولة تتلاعب بعملتها" وتصدر قراراً مؤقتاً تحظر فيه المشتريات الفيدرالية لمعدات الاتصال السلكية واللاسلكية من خمس شركات صينية، منها "هواوي". إدارة ترامب تتهم الصين بأنها تغش في سعيها للسيطرة على التقنيات الحديثة، وبأنها تسرق الأسرار التجارية، وتدعم بشكل غير عادل الشركات التكنولوجية الصينية مقابل فرض إجراءات بيروقراطية مثقلة على الشركات الأجنبية التي تدخل السوق الصيني. كل هذه الخطوات التصعيدية تكشف نقاط ضعف الطرفين الأميركي والصيني.
تعليق شراء الصين للمنتجات الزراعية الأميركية يُضر بالمزارعين في أرياف وسط غرب أميركا، أي قاعدة ترامب في الولايات الحاسمة انتخابياً. بكين تأتي في المرتبة الخامسة على لائحة الصادرات الزراعية الأميركية، التي بلغت 9.2 مليارات دولار العام الماضي، لكن هذا الرقم كان 19.5 مليار دولار في العام 2017، حين تولى ترامب الرئاسة، والرقم هذا العام، حتى الآن، بلغ 1.3 مليار فقط. وما يفعله ترامب في هذا السياق أن كل دولار يصل إلى الخزينة من الرسوم على البضائع الصينية يقابله دولار لتمويل صندوق برامج دعم المزارعين الأميركيين المتضررين من الحرب التجارية مع بكين أو غيرها من العواصم، وبذلك تم تخصيص 12 مليار دولار العام الماضي و16 مليار دولار العام الحالي لهذا الصندوق. ولهذا تبقى حتى الآن شعبية ترامب قوية بين هؤلاء المزارعين ومربي الماشية. وفي آخر استطلاع أجري الشهر الماضي، ونشره هذا الأسبوع مركز بيردو للزراعة التجارية، قال 78 في المائة من المزارعين الأميركيين إنهم يعتقدون أن الحرب التجارية مع الصين ستعود بالفائدة عليهم في نهاية المطاف.
ترامب يعتبر أنه يستفيد من الرسوم التجارية التي يفرضها حول العالم، لأنها زادت خلال فترة عام الإيرادات بنسبة 63 مليار دولار، بحسب إحصاءات وزارة الخزانة الأميركية نهاية يونيو/حزيران الماضي، والتوقعات أن يدخل إلى الخزينة ما معدله 72 مليار دولار سنوياً من مجمل الرسوم التجارية. لكن النمو الاقتصادي الأميركي تراجع إلى 2.1 في المائة في الربع الثاني من العام الحالي، بعدما كان 3.1 في المائة في الربع الأول، والتضخم يلوح في الأفق العام المقبل. ويقدر المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أن رسوم إدارة ترامب تكلف كل بيت أميركي ما معدله ألف دولار على أسعار السلع، أي أن ترامب يأخذ أموال الرسوم ويعطيها للمزارعين، بينما يدفع المواطن الأميركي من جيبه ثمن هذه الحرب التجارية.
أما بالنسبة إلى بكين، فإن قرار خفض عملة اليوان الصينية يعني أنها تتأقلم مع التبعات الاقتصادية لمواصلة الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، مع أن خفض قيمة اليوان فيه مخاطرة بأن يهرب الرأسمال الأجنبي خارج الصين. لكن بكين اتخذت هذه الخطوة بحذر، لأنها تدرك مدى انزعاج ترامب من خفض تكلفة الصادرات الصينية. كان هناك حتى توقعات أن ترامب قد يرد بالتدخل في سعر الصرف، كي لا يبقى الدولار قوياً أكثر مما يلزم أمام اليوان، لكن المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يتمسك باستقلاليته التاريخية عن الحكومة المركزية، وهناك تبعات سياسية ومالية كبيرة إذا انتهك الرئيس هذه الاستقلالية.
وهناك أسلحة أكثر خطورة متاحة للصين مثل "الخيار النووي"، أي إثارة حالة ذعر في أسواق السندات المالية الأميركية، بما أنها تملك 1.1 تريليون دولار من هذه السندات، وإذا تخلت عنها بشكل مفاجئ فقد يؤدي هذا الأمر إلى انهيار في أسعارها وارتفاع في أسعار الفائدة والقروض الأميركية. لكن خطورة هذه الخطوة أنها قد ترتد سلباً على الصين، وعلى سمعتها المالية عالمياً، وقدرتها على استقطاب الاستثمار الأجنبي. وقد لفت البنتاغون، في تقرير رفعه إلى الكونغرس في العام 2012، إلى أن الاحتياطي الفيدرالي "قادر تماماً" على التدخل في سندات الخزانة الأميركية لتجنب التداعيات الاقتصادية لتخلي الصين عنها. كما أن لبكين خيارات بديلة محدودة لاستثمار احتياطها الأجنبي الكبير حول العالم، بحيث تحصل على نسبة مربحة تصل إلى 1.63 في المائة على مدى 10 سنوات من استثمارها في ديون الحكومة الأميركية.
الصين بدأت تكرر خلال الأشهر الماضية متلازمة إيران عن أنه لا تفاوض على الاتفاق النووي قبل رفع العقوبات الأميركية، بحيث تقول في تصريحاتها إنه لا اتفاق للتجارة الحرة قبل أن ترفع واشنطن الرسوم التجارية. كما تعلمت بكين من درس المكسيك، بحيث حتى بعدما رضخت لضغوط تعديل اتفاقية منطقة التجارة الحرة لأميركا الشمالية، رفض ترامب لأشهر رفع الرسوم عن الصلب والألمنيوم المستورد من المكسيك. الرئيس الاميركي فرض الرسوم الجديدة على الصين ابتداءً من 1 سبتمبر/أيلول المقبل، والحظر الفيدرالي بشموليته على خمس شركات صينية لن يدخل حيز التنفيذ قبل أغسطس 2020، رغم ضغوط صقور الجمهوريين في الكونغرس لفرضها بأسرع وقت ممكن. هذا يعني أن البيت الأبيض يترك الباب مفتوحاً لاختراق ما قبل نهاية الشهر الحالي، لا سيما أن الجولة التالية من المباحثات متوقعة في واشنطن بداية الشهر المقبل.
وأبعد من الحرب التجارية، الهدنة لا تزال قائمة بين الطرفين. ترامب لم يتدخل فيما يجري من تظاهرات في هونغ كونغ، وبكين فرملت مسار التفاوض بين أميركا وكوريا الشمالية، لكنها ساهمت في تثبيت استقرار الخليج الكوري. التحدي هو أن حسابات الربح والخسارة تطغى على هذه المعركة بين الرئيسين الأميركي والصيني وليس المعطيات الاقتصادية. بكين تقول لترامب إنها تفضل مواجهة على المدى القصير بدل القبول باتفاق تجاري يؤثر على الاقتصاد الصيني على المدى البعيد. والاقتصاد جزء كبير من حسابات ترامب الانتخابية، وبالتالي قد يكون مستعداً لتخفيف التصعيد في المرحلة المقبلة، ويبدو أن تكتيكه حالياً يتمحور حول محاولة الضغط في الربع الأخير من المفاوضات، لكن العودة إلى الهدنة يبقى السيناريو الأمثل للطرفين، في ظل تراجع فرص التوصل إلى تسوية تحفظ ماء وجه الطرفين. الصين قد تخسر أكثر اقتصادياً في هذه الحرب التجارية، لكن ترامب قد يخسر أكثر سياسياً.