يختلط الواقع بالخيال في قصص تصفية أجهزة الاستخبارات السوفييتية ولاحقاً الروسية "الخونة وأعداء الوطن"، ومنذ عمليات التطهير الستاليني في ثلاثينات القرن الماضي تطورت أدوات أجهزة الاستخبارات من استخدام كواتم الصوت وعلب الشوكولا المفخخة وصولاً إلى مركبات كيميائية معقّدة، واستخدام النظائر المشعة لقتل المعارضين والجواسيس.
ومنذ أيام اتهمت المحامية أولغا ميخاييلوفا السلطات الروسية بتسميم المعارض الليبرالي أليكسي نافالني. وبعد زيارة له في بداية الأسبوع الحالي إلى السجن أكدت المحامية أنه تعرّض "للتسميم" بمادة "كيميائية غير معروفة". ولم يستبعد نافالني، الذي يقضي عقوبة بالسجن 30 يوماً بعد إدانته الأسبوع الماضي بالدعوة إلى تظاهرة غير مرخّص لها، أن يكون تعرّض للتسميم قبل نقله إلى السجن بعد اعتقاله أثناء التظاهرة.
من جهتها، أعربت طبيبة العيون أناستاسيا فاسيلييفا، التي سبق أن عالجت نافالني عام 2017، عن قلقها لإعادته إلى السجن من دون "أن يتعافى كلياً". وقالت إن "إعادته إلى المكان الذي تلقى فيه كمية من مادة كيميائية مجهولة من دون معرفة نتائج الفحوصات ليست أمراً جيداً ولا مهنياً". وعولج نافالني في المستشفى لساعات بعد ظهور تورم في الجفنين، وانتشار دمامل على الرقبة والظهر والصدر والكوعين. وعلى الرغم من عدم التوصل إلى نتائج نهائية تؤكد تسميم نافالني، تعيد الاتهامات الموجهة للسلطات الروسية بتسميمه التذكير بعشرات عمليات التصفية داخل روسيا وخارجها، كشف بعض منها وتحولت بعض العمليات إلى أفلام سينمائية، وبقي بعضها محفوظا في أدراج وأرشيف الأجهزة الأمنية.
وتعد عملية "البطة" من أشهر عمليات الاغتيال خارج الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين. ونتيجة العملية قتل الزعيم ليون تروتسكي على يد عميل للاستخبارات السوفييتية في المكسيك عام 1940، باستخدام معول ثلج عقب خلافاته مع ستالين ونفيه. ويبدو أن ستالين لم يرق له وجود استمرار شخص بوزن تروتسكي على قيد الحياة فقرر التخلص منه، حتى بعد نفيه من الاتحاد السوفييتي وإعدام معظم مناصريه وسحب الجنسية منه. وبعد رحلة مضنية بين كازاخستان وتركيا ودول أوروبية عدة استقرّ، أخيراً في المكسيك حيث طاولته أجهزة ستالين. ومعلوم أن تروتسكي كان من أهم قادة ثورتي 1905 و1917 في روسيا، وشغل منصب مفوض الحزب حتى عام 1925، وأسس الجيش الأحمر، وكان المرشح الأبرز لخلافة لينين، لكن غياب تروتسكي عن جنازة لينين عام 1924، مكّن ستالين من استغلال الظرف إضافة إلى قوته من أجل السيطرة على الحكم في الدولة السوفييتية.
ومع براعتها في تصفية الجواسيس والمنشقين باستخدام وسائل القتل التقليدية، وحوادث الطرق والغرق، طوّرت الاستخبارات الروسية مواد كيميائية مختلفة لكن النتائج لم تكن دائماً مضمونة. وفي عام 1957 وأثناء مؤتمر مناهض للاتحاد السوفييتي، سقط الضابط السابق الحائز على ميدالية الاستحقاق لدوره في الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1945) نيكولاي خوخلوف، أرضاً، مع ارتعاش في جسده قبل أن يفقد الوعي نهائياً. وبعد عمل شاق لمدة ستة أسابيع تمكن الأطباء من إنقاذ حياته، واكتشفوا آثاراً لتعرضه للتسمم بعنصر "ثاليوم" وضع له في فنجان قهوة.
ومعروف أن خوخلوف كان ضمن فرقة هبطت بالمظلات في بيلاروسيا ونفذت عملية اغتيال الجنرال النازي وليام كيوب بتفجير في غرفة نومه عام 1943، لكن بطولاته لم تشفع له بعدما تراجع في اللحظات الأخيرة عن اغتيال غيورغي أكولوفيتش، وهو قائد مجموعة من المهاجرين الروس الذين هربوا من الاتحاد السوفييتي عقب انتصار البلاشفة. وعلى الرغم من أنه وصل إلى أكولوفيتش ومعه مسدسان على شكل علبة سجائر وبندقية صغيرة محشوة برصاصات سامّة، فقد أنّبه ضميره، وقال لقد جئت إليك من موسكو بعد أن أمرت اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي بتصفيتك وأوكلت العملية إلى مجموعتي، ولا يمكنني أن أسمح بحدوث هذا. وبعدها تحوّل خوخلوف إلى واحد من أبرز مناهضي الاتحاد السوفييتي. ويبدو أن التغيرات في تلك الحقبة أسهمت في عدم تعرضه لمحاولة اغتيال أخرى، ليعود في تسعينات القرن الماضي إلى روسيا بعفو من الرئيس الأسبق بوريس يلتسين.
عود على بدء بأساليب هجينة
حجم الاغتيالات بحق المعارضين السياسيين والمنشقين تراجع في سبعينات القرن الماضي، وكادت تنتهي هذه الظاهرة في فترة حكم ميخائيل غورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، وبوريس يلتسين أول رئيس لروسيا الاتحادية. لكن مع صعود الرئيس الحالي فلاديمير بوتين إلى الحكم، بدأت تطفو على السطح مشكلات مع "حيتان المال" الذين كانت لهم الكلمة العليا في الكرملين، وهرب كثير منهم إلى خارج البلاد واختاروا بريطانيا أو إسرائيل ملاذاً جديداً لهم. ومن جهة أخرى تواصلت الاتهامات الغربية لأجهزة الاستخبارات الروسية باستهداف العملاء السابقين والسياسيين المعارضين في خارج البلاد. وذهبت تقارير صحافية إلى تحميل روسيا مسؤولية تشويه وجه الأوكراني فيكتور يوتشينكو في عام 2004 عندما كان مرشحاً لانتخابات فاز بها، نتيجة تعرضه لجرعة قاتلة من "ديوكسين".
وفي السنوات الأخيرة، سجلت حوادث تصفية بحق جواسيس سابقين ورجال مال عارضوا بوتين بعدما كانوا من أهم داعميه للوصول إلى سدة الحكم. ورغم نفي الكرملين، فقد وجهت بريطانيا اتهامات مباشرة لروسيا بالضلوع في تسميم العميل الروسي السابق ألكسندر ليتفينينكو في 2006، بعد دس جرعة من "البولونيوم 210 المشع" في كوب شاي في أحد فنادق لندن، أثناء لقائه مع جاسوسين روسيين سابقين هما أندريه لوغوفوي وديمتري كوفتين. ومعروف أن ليتفينينكو هرب من روسيا في عام 2000، بعد انتقادات حادة وجهها لبوتين ولجهاز الاستخبارات الروسية، ولاحقاً اتهم الأجهزة الأمنية بالتواطؤ في تفجيرات هزت مباني سكنية في موسكو وأودت بحياة المئات. وقال في كتاب إن التفجيرات التي حملت السلطات الانفصاليين الشيشانيين المسؤولية عنها، استخدمت من أجل شن عملية عسكرية ضد الشيشان، وتمكين بوتين من الصعود إلى سدة الحكم. وسممت حادثة ليتفينينكو الأجواء بين بريطانيا وروسيا.
وفي 2013، عثر على الملياردير اليهودي الروسي بوريس بيريزوفسكي ميتاً داخل قصره في لندن، وكان من أهم المتحكمين بقرار الكرملين في منتصف تسعينات القرن الماضي، وأدى دوراً مهماً، حسب خبراء، في وصول بوتين إلى السلطة أواخر التسعينات. وعلى الرغم أنه عُثر على الجثة ملفوفة بوشاح حول الرقبة في الحمام ما يعني أنه انتحر، فإن السلطات البريطانية تؤكد أن الفحوصات الطبية تشكك في هذه الفرضية.
وفي العام الماضي، أثارت محاولة اغتيال العميل المزدوج السابق سيرغي سكريبال مع ابنته يوليا في مدينة سالزبري البريطانية أكبر أزمة ديبلوماسية بين روسيا والغرب، تبادل فيها الطرفان طرد عشرات الديبلوماسيين إثر تضامن نحو 20 دولة مع بريطانيا. وكشفت الجهات الأمنية البريطانية أن سكريبال الضابط السابق في الاستخبارات العسكرية الروسية، نجا من محاولة اغتيال باستخدام غاز "نوفوتشوك" السام. وحددت شخصية رجلين تقول إنهما من الاستخبارات الروسية حضرا إلى المدينة في يوم الحادثة، في 4 مارس/آذار 2018. ولا زالت روسيا ترفض الاتهامات البريطانية وتصفها بأنها محض افتراء. وفي صيف العام الماضي، وبعد ساعات من طلب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الرجلين الظهور علناً وكشف شخصيتهما، ظهر الرجلان في مقابلة مع رئيسة شبكة "روسيا اليوم" مارغريتا سيمونيان، ليعلنا أنهما كانا في زيارة إلى بريطانيا، وأنهما قصدا مدينة سالزبري لمشاهدة كنيستها التاريخية، وساعاتها القديمة التي ما تزال تعمل، وطلبا الحماية من السلطات الروسية، وطالبا بريطانيا بالاعتذار لهما. وفي وقت لاحق ذكرت استقصاءات صحافية لوسائل إعلام معارضة أن الرجلين هما ضابطان في الاستخبارات الروسية، وأجريا عدداً من المقابلات مع مواطنين تعرفوا عليهما من أماكن سكنهما.
وإضافة إلى تصفية عملاء سابقين في أجهزة الاستخبارات في الخارج، توجه اتهامات للسلطات الروسية باغتيال صحافيين وسياسيين في الداخل باستخدام قتلة مأجورين. وفي تصريحات لصحيفة "غارديان" البريطانية، قالت الإعلامية المعارضة آنا بولوتنيكوفسكايا إنها تعرضت لمحاولة اغتيال بدس سم في الشاي بعد نشرها تقارير عن الحرب في الشيشان، وتغطيتها احتجاز الرهائن في مدرسة بيسلان عام 2004، وأثارت حينها غضب الكرملين. وفي عام 2006 اغتيلت بولوتنيكوفسكايا في مدخل عمارتها. وبعد نحو تسعة أعوام على اغتيالها حُكم على أربعة شيشانيين ومسؤول سابق في الشرطة بتهمة قتل الصحافية المعارضة، في حين لا زال الطرف الذي أوعز بقتلها حتى الآن، مجهول الهوية.
تسببت وفاة عدد من المعارضين والعملاء والمنشقين في أزمات عدة مع الغرب، ووُجّهت انتقادات حادة للسلطات الروسية بسبب تعاملها مع المعارضين السياسيين والصحافة الحرة. وفي حين كشفت التحقيقات الغربية عن ضلوع الاستخبارات الروسية في بعض عمليات التصفية، ما زالت روسيا ترفض هذه الاتهامات. وحسب خبراء، فإن الاستخبارات الروسية لم تطور فقط أساليب تصفية المطلوبين، بل طوّرت في طرق نفي المسؤولية، وابتكرت أساليب عدة، منها الإغراق في نشر فرضيات كثيرة حول الحادثة، مثلما حدث مع المعارض نيمتسوف على سبيل المثال، فقد أعادت إلى الأذهان تصريحات سابقة له في 2007 تهاجم الإسلام وانطلقت من أنها تُعد أساساً لقتله على يد مواطنين من جمهوريات ذات غالبية مسلمة. ويصب طرح فرضيات مختلفة يصل بعضها إلى مصاف "العصف الفكري" في تشتيت التحقيقات وتمييع الحقائق عبر التشكيك بها، وربما لا تهدف التبريرات الروسية إلى اقناع الطرف الآخر بل إلى خلط الأوراق أساساً. وفي موضوع تسميم سكريبال طُرحت فرضيات كثيرة حول تهريب الغاز من قبرص، كما أعلن خبراء في موسكو أن غاز الأعصاب "نوفوتشوك" اكتشف منذ السبعينات من القرن الماضي وأن دولاً من بلدان الاتحاد السوفييتي السابق والكتلة الشرقية تستطيع تصنيعه.
وعلى الرغم من نفي السلطات الروسية تنفيذ عمليات اغتيال بحق معارضيها في داخل البلاد وخارجها، فإن طيفاً واسعاً من الروس يفاخر بقدرة أجهزة الاستخبارات الروسية على تصفية "أعداء الوطن" من دون ترك أي أدلة، ويستحضر أمجاد "كا جي بي" التي أذاقت آباءهم وأجدادهم الويلات، ورمت بملايين منهم في معسكرات الاعتقال في سيبيريا وغيرها، وهو ما كشفت عنه استطلاعات رأي حول ستالين وأجهزة الأمن السوفييتية.