يتميز المشهد السياسي التونسي بحالة متواصلة من عدم الاستقرار منذ انتخابات 2014، وكأن الاحزاب التونسية تقف فوق صخور تكتونية متحركة بعد زلزال، وتحاول عبثاً البحث عن شيء من الاستقرار يمكنها من التوجه إلى الناخبين.
وأمام هذا الوضع، تجاوز عدد الأحزاب التونسية الـ200، علاوة على التجمعات المستقلة التي تضم شخصيات وازنة في الحراك التونسي. وباستثناء حركة النهضة، فقد ضربت حُمى الاستقالات والانشقاقات كل الأحزاب. كما أن الجبهة الشعبية اليسارية التي ظلت متماسكة إلى وقت قريب، أصيبت بضربة قوية بعد الخلافات بين أبرز مكوناتها: حزب العمال وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد. وقال نائب رئيس النهضة ورئيس الحكومة الأسبق، علي العريّض، لمناضلي حزبه، في عيد تأسيسه الـ38 أخيراً، إن هذه الوحدة هي صمّام الأمان أمام محاولات ضربه، داعياً إياهم إلى التشبث بهذه الوحدة بكل قوة وعدم التفريط بها، خصوصاً في هذه الأوقات، برغم التنوع والاختلافات التي تستدعي حسن إدارتها حتى تكون عامل إثراء، لا مدعاة فرقة.
ويوصف المشهد التونسي بأنه "حركة هدم وإعادة بناء" مستمرة. ويعتقد كثيرون أنها حالة طبيعية بعد الانفجار السياسي الكبير جراء الثورة، إذ تختلط فيه عملية البحث الفكرية والتأسيسية بالانتهازية السياسية ولعبة المصالح والتموضع، ويبحث فيه التونسي عن هويته السياسية وتوجهه الانتخابي، فيما تتطلب عملية الاختيار وقتاً طويلاً لتثبيتها نهائياً. وربما تكون انتخابات 2019 مرحلة مهمة، لذلك قد تستقر بعدها الأوضاع نسبياً، ويتجمع المشهد المتشظي في ثلاث أو أربع مجموعات سياسية كبيرة، تتنافس دورياً على السلطة.
غير أن الصراع الكبير يدور حالياً في الوسط، خصوصاً بين الأحزاب التي تعتبر أنها تنتمي إلى العائلة الديمقراطية الاجتماعية، وأن برامجها الاقتصادية وخياراتها السياسية الدولية متقاربة، وتتخذ من الدفاع عن مشروع مجتمعي تونسي أصيل، يجمع بين الحداثة والموروث، هدفاً رئيسياً لها. وبرغم كل الضبابية التي تحيط بهذا الطرح، فإنه يعني سياسياً منافسة حركة النهضة، المحسوبة على اليمين، والتي تعمل منذ فترة على الانزياح تدريجياً نحو منطقة الوسط ومحاولة افتكاك القاعدة الجماهيرية التي يتنافس الجميع حولها، لكونها القاعدة الانتخابية الكبرى في البلاد، والتقليدية التي ربّاها النموذج البورقيبي مع ولادة الدولة الحديثة بعد الاستقلال، مع تفرعاتها الدستورية والتجمعية (نسبة لحزب التجمع المنحل).
وبرغم وحدة هذا الهدف فكرياً، إلا أن هذه العائلة السياسية الوسطية فشلت في التجمع في مشروع سياسي واحد، بسبب اعتقاد كل منها بجدارته بقيادتها. بل إن خلافاتها المتكررة تسببت في تعطيل عمل الحكومات المتعاقبة وضربت البرلمان، عصب العملية السياسية في تونس ومصدر القرارات، وتسببت في مشاكل اقتصادية كبيرة للبلاد وخلافات بين السلطات. لكن الانفجار الأكبر في العائلة الوسطية سببه خصوصاً تفتت حزب نداء تونس، الذي تشظى إلى أحزاب كثيرة، بالإضافة إلى توزع الدستوريين والتجمعيين على أحزاب متعددة، وتراجع شعبية أحزاب تاريخية معارضة لم تنجح في استقطاب الناخبين في مختلف الاستحقاقات الماضية وارتكبت أخطاء سياسية واتصالية قاتلة قادت إلى ابتعادها عن المجموعات المتنافسة في الانتخابات.
ومع اقتراب الانتخابات، التشريعية في 6 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، والرئاسية في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني، تحاول بعض المكونات أن تتجمع من جديد، على غرار الائتلاف الجديد الذي يجمع الحزب الجمهوري بأحزاب أخرى، ومحاولة حزبي مشروع تونس وشق من نداء تونس استعادة ما يمكن من "النداء التاريخي" على حد توصيفهم. وأكد الأمين العام لحركة مشروع تونس حسونة الناصفي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ التحالفات أصبحت ضرورية في ظل تشتت المشهد السياسي، وهو ما أسفر عن مشهد غريب تعكسه أغلب عمليات سبر الآراء، مضيفاً أن هناك مخاوف حقيقية اليوم من الوصول إلى تركيبة برلمانية غير قادرة على التصويت بأغلبية، وهو ما يدفع العديد من الأحزاب إلى البحث عن حلول والعمل على توحيد الصفوف. وأوضح الناصفي أنه ليس أمام الأحزاب حالياً من خيار سوى تجميع الصفوف، لأن التوحيد سيمكنها من مضاعفة حظوظها لكي تكون موجودة على الساحة ولديها إمكانية لتحمل أعباء الحكم أو تشكيل معارضة قوية، فالتشتت لا يخدم أي طرف، سواء كان في الحكم أو المعارضة. وأشار إلى أنّ لديهم ثقة في التوازن الذي قام به مشروع تونس مع نداء تونس (شق الحمامات)، وهي خطوة كبيرة وليست سهلة وتعتبر هامة بالنظر إلى ما حصل من انشقاقات في نداء تونس طيلة السنوات الأربع الماضية، مضيفاً أن هذا التحالف إيجابي، ويضاف إلى تحالفات منتظرة مع الأحزاب القريبة منهم وأيديهم مفتوحة لأبناء العائلة الوسطية الديمقراطية، مشيراً إلى أنهم يأملون أن يتدعم التحالف مع أحزاب أخرى أو شخصيات مستقلة.
وأكد الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن تونس على أبواب انتخابات مصيرية، وبالتالي فالتحالفات بين الأحزاب ضرورية لتتجمع حتى لا تبقى ضعيفة في مواجهة الأحزاب الكبيرة، ولكي تتضح الصورة أكثر لدى الناخب. واعتبر أن الأحزاب الديمقراطية الوسطية ظلت مشتتة بعد الانتخابات الماضية، ولم تحتل موقعها من حيث التأثير في المشهد السياسي، وكان السؤال دائماً: لماذا تلتقي الأحزاب وبقيت العائلة الديمقراطية مشتتة؟ وأشار إلى أنه بعد نقاش طويل ومضنٍ تمت بلورة اتفاق سياسي سيكون تاريخياً لتكوين جبهة سياسية انتخابية توحد أحزاب الجمهوري، وحركة تونس إلى الأمام، والمسار الديمقراطي الاجتماعي، وحركة الديمقراطيين الاجتماعيين ومبادرة قادرون، بالإضافة إلى شخصيات عديدة. وأوضح أنه بعد صياغة أرضية سياسية ولائحة تنظيمية لحوكمة العمل وضمان استمرار الجبهة، تم التأكيد على الخيارات السياسية للجبهة، والتي ستعمل على الانحياز للعدالة الاجتماعية والديمقراطية وتنظيم الاختلاف داخلها، لكي تتخذ القرارات بعد التداول والتعامل على قاعدة المساواة لخلق قوة انتخابية تكون قادرة على اختراق المشهد الانتخابي وتنافس الأحزاب وتواجه جميع مظاهر الفساد الانتخابي والقوى المشبوهة. وأوضح أنه سيتم الإعلان عن الجبهة، أو التحالف الانتخابي الديمقراطي الاجتماعي الجديد، خلال الأسبوع المقبل، معتبراً أن "هذا التحالف الجديد سيتمكن من اختراق المشهد الانتخابي والسياسي في البلاد، وسيقدم توجهاً سياسياً جديداً يعيد الأمل والثقة لكل فئات الشعب التونسي". وقال الشابي إنّ القوى الديمقراطية ستتولى ملء الفراغ السياسي وإعادة الأمل للتونسيين من خلال برامج واقعية وبعد تقييم فشل منظومة انتخابات 2014، مؤكداً أن لديهم ثقة في الجبهة الجديدة وأن تكون هذه التحالفات قادرة على فرض نفسها، مهما كانت نتيجة الانتخابات، سواء كجزء من الحكم أو المعارضة.