وحقق الأسرى في إضراب الكرامة الثاني، كما أطلقوا عليه، إنجازات مهمة للحركة الأسيرة، أبرزها تركيب هواتف عمومية، والذي كان مطلباً لهم منذ عام 1992، وظلّ يترأس قائمة مطالب إضراباتهم في السنوات الماضية، حتى تم انتزاعه في الاتفاق الذي توصّل إليه الأسرى مع جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) ومصلحة السجون أول من أمس الإثنين.
وتفيد مصادر متطابقة بأنّ مجموعة عوامل اجتمعت لتجعل من هذا الإضراب قصيراً، ويحقق في الوقت نفسه إنجازات مهمة للحركة الأسيرة. فالتصعيد غير المسبوق داخل المعتقلات، والتوقيت بما يتعلّق بالانتخابات الإسرائيلية، جعلت رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو يقوم بسحب ملف الأسرى من وزير الأمن جلعاد أردان، ويسلمه لـ"الشاباك" خوفاً من تفجّر الأمور. فيما جاء إلقاء المستوى السياسي في حركة "حماس" بثقله لإنجاح الإضراب، ليزيد من الضغط على الاحتلال. وكانت الهدنة بين الاحتلال و"حماس" التي توسّطت فيها مصر والمبعوث الدولي نيكولاي ميلادينوف الشهر الماضي، مشروطة بتحقيق مطالب الأسرى، قبل أن يخرج الاتفاق الأخير إلى العلن بأقصر أيام جوع ممكنة.
وعلى غير المتوقّع، لم يتم احتواء التصعيد في المعتقلات، ولم تنجح خطة أردان في قمع الأسرى وسحب الإنجازات التي حققوها خلال إضرابات سابقة، وزرع أجهزة تشويش على الهواتف النقالة، بتحقيق أهدافها، بل إنّ الأحداث خرجت عن السيطرة، خصوصاً حين قام أسير من حركة "حماس" بطعن جنديين إسرائيليين، ما رفع حالة الطوارئ في المعتقلات إلى مستويات خطيرة.
وفي السياق، قال الخبير في شؤون الأسرى والأسير المحرّر فؤاد الخفش، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "التقديرات الأمنية وصلت للاحتلال، ومفادها بأنه إذا تواصل التصعيد هذه المرة واستشهد أسرى، فإنّ الأوضاع سوف تفلت في الضفة الغربية. وقد لمست سلطات الاحتلال أنّ هناك تصعيداً كبيراً في المعتقلات، وأنّ الأسرى لديهم ضوء أخضر لحرق الغرف والقيام بكل ما هو ممكن، فضلاً عن أنّ المستوى السياسي كانت مرجعيته الأسرى وليس العكس، كما يحدث مع حركة فتح".
وتابع الخفش "مصلحة السجون الإسرائيلية وصلت لقناعات بأنّ الأمور لن تقف عند إضراب 1000 أسير و20 قيادياً عن الماء، بل ستكون الأمور مفتوحة أمام الأسرى ليفعلوا ما يريدون، بما في ذلك تنفيذ عمليات حرق وطعن".
وقرأ الاحتلال التصعيد في المعتقلات على أنه سيناريو متدحرج سيأخذه أسرى "حماس" و"الجهاد" والجبهتين "الشعبية" و"الديمقراطية" إلى نقطة اللاعودة، خصوصاً بعد إعلانهم في فبراير/ شباط الماضي حلّ كامل الهيئات التنظيمية وإلغاء التمثيل الاعتقالي أمام إدارة السجون، وهو ما يعني أنّ كل أسير هو ممثل عن نفسه. ويعدّ هذا الإجراء تصعيدياً ويندرج تحت "العصيان" في مفهوم المعتقلات، في رسالة واضحة من الأسرى لإدارة السجون بإعلان حالة الطوارئ.
وقال قيادي داخل أحد المعتقلات الإسرائيلية، لـ"العربي الجديد"، إنّ حلّ الهيئات التنظيمية "أخرج المارد من قمقمه من دون قيود، ما أدى لقيام أسرى القسم رقم 1 في سجن رامون بتاريخ 18 مارس الماضي، بخطوة غير مسبوقة، حيث أحرقوا 14 غرفة من غرف القسم البالغة 15، فيما خرج الأسرى من غرفهم من دون خطوات عنيفة ضدّ السجانين. لكنّ وحدات قمع الأسرى انقضّت عليهم، وضربت 56 أسيراً من أصل 88، في مخالفة واضحة لقوانين وأعراف السجن، والقاضية بمنع ضرب أسير مقيّد لا يمثل أي خطورة على حياة طاقم الأمن".
وتابع القيادي "ثمّ جاءت لحظة الذروة في نضال الأسرى الفردي الناتج عن حلّ التنظيمات، والذي تمثّل بقيام الأسير الحمساوي إسلام وشاحي من مخيم جنين، في 24 مارس الماضي، بطعن ضابط وشرطي في القسم رقم 4 بسجن النقب، المليء بأجهزة التشويش، الأمر الذي أدى لحملة قمع في السجون هي الأعنف. إذ بدأت وحدات القمع باستدعاء قادة الأسرى، وهم مقيدون، ثم أطلقوا النار واعتدوا عليهم، كما حدث مع مسؤول حماس في النقب المهندس سلامة قطاوي، ونائبه مصعب أبو شخيدم وأمير قسم رقم 4، أحمد الصيفي".
في غضون ذلك، كان قادة الأسرى في المعتقلات على تواصل مع قيادات فصائلهم في الخارج، وتحديداً حركة "حماس"، التي أبلغت الوسطاء المصريين ومبعوث الأمم المتحدة نيكولاي ميلادينوف أنّ "لا هدوء في غزة بدون الأسرى"، خلال مفاوضات التهدئة الأخيرة.
وشدّدت مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد" على أنّ "قادة الأسرى في المعتقلات كانوا لاعباً أساسياً في الحوارات التي تمت في الخارج، حيث شارك بعض قيادات الأسرى عن طريق الهاتف، في لقاءات مهمة عقدها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، ورئيس الحركة في قطاع غزة يحيى السنوار، مع ميلادينوف والجانب المصري، ونقلوا ما يريدونه، وتحدثوا عن الخطوات التصعيدية للإضراب في حال عدم الاستجابة لمطالبهم".
وقاد عملية الحوار مع جهاز "الشاباك" داخل معتقل "ايشل"، رئيس الهيئة العليا لأسرى "حماس"، محمد عرمان، بعد أن تم نقله من العزل، ونائبه عباس السيد، ومهند شريم، وجميعهم ينتمون لـ"حماس"، ويمضون أحكاماً بالمؤبدات المكررة، أي مئات السنين. وكان هؤلاء يعودون للتشاور مع أعضاء الهيئة القيادية التي بدأت الإضراب، وهم زيد بسيسي من "الجهاد الإسلامي"، وائل الجاغوب وحسين درباس من الجبهتين الشعبية والديمقراطية، وأسير "فتح" أكرم أبو بكر الذي دخل الإضراب بشكل فردي.
وقالت المصادر المطلعة، التي تحدثت مع "العربي الجديد"، إنّ "قيادة حماس في قطاع غزة، كانت مرجعيتها قيادة الإضراب في المعتقلات، وهذا أمر أدركه الاحتلال، وقد تصرّف نتنياهو على أساسه، إذ سحب ملف الأسرى من أردان وسلمه للشاباك، مع ضوء أخضر للموافقة على مطالب تنهي الإضراب والتصعيد".
وأنهى نحو 400 أسير أوّل من أمس الاثنين، إضراباً عن الطعام استمر ثمانية أيام، بعد التوصّل إلى اتفاق مع إدارة معتقلات الاحتلال يقضي بتلبية مجموعة من مطالبهم الحياتية، أبرزها وقف تشغيل أجهزة التشويش، مع وقف نصب أجهزة تشويش جديدة، وتركيب هواتف عمومية في أقسام الأسرى، والتي سيسمح للأخيرين، بحسب الاتفاق، باستخدامها ثلاث مرات في الأسبوع، على أن تكون مدة المكالمة ربع ساعة لكل أسير.
ووفق الاتفاق، سيتم البدء أولاً بتركيب الهواتف العمومية في أقسام الأسيرات، والأشبال والمعتقلات الشمالية، في حين أنّ السقف الزمني للبدء بذلك ما زال غير معلوم حتى الآن.
وتمّ الاتفاق كذلك، بحسب ما نشر "نادي الأسير الفلسطيني"، على نقل الأسيرات من معتقل "الدامون" إلى معتقل آخر، وإعادة الأسرى المرضى في معتقل "عيادة الرملة" إلى القسم القديم، الذي تم إخلاؤه بحجة إعادة تأهيله. علماً أنّ هذا أحد مطالب الأسرى المرضى الأساسية، وذلك لكون الظروف الحياتية في القسم القديم من حيث المساحة، أفضل من القسم الذي يوجدون فيه. ونصّ الاتفاق أيضاً على عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الإجراءات العقابية التي تم فرضها العام الماضي على الأسرى، وتخفيض إجمالي الغرامات التي فرضت خلال المواجهة الأخيرة.
وتعليقاً على ذلك، قال عضو اللجنة المركزية لـ"الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين"، عصمت منصور، في حديث مع "العربي الجديد"، "أعتقد أنه تم كسر حاجز مهم، عبر انتزاع موافقة إدارة السجون على تركيب الهاتف العمومي في الأقسام، لكن هذا الإنجاز محفوف بالكثير من الألغام والعوائق، وأهمها اشتراط تركيب التشويش، وسحب الهواتف النقالة، كما يسرب الإعلام الإسرائيلي"، مضيفاً أنّ هذا "يحتاج إلى تأكيد من الأسرى في الأيام المقبلة عبر المحامين والزيارات".
وحول مسألة تسليم الهواتف النقالة، قال الخبير في شؤون الأسرى والأسير المحرّر فؤاد الخفش: "أولا هناك شرط أن يبدأ تركيب الهواتف العامة في معتقلات الشمال مثل مجدو (1200 أسير) وجبلوع (800 أسير)، وهي من المعتقلات التي لا يوجد فيها هواتف نقالة مهربة، ما يعطي الأسرى فرصة تقييم الاتفاق ومعرفة مدى التزام الاحتلال به". وتابع "أعتقد أنه سيتم تسليم عدد من الهواتف النقالة، لكن لن يتم تسليمها جميعها، لأن إدارة السجن لا تعرف عددها، فضلاً عن أنّ هناك قدرة دائمة على تهريبها إلى داخل السجن رغم كلفتها العالية جداً".
بدوره، تابع عصمت منصور، وهو أسير محرر أمضى عشرين عاماً في السجن وخرج قبل سنوات قليلة: "هذا إنجاز ستستفيد منه الحركة الأسيرة كاملة، وهذا ما جعل هذا الإضراب يحقق اختراقاً مهماً، وأتصور أنّ الأسرى سيجدون صيغة لتجاوز العقبات معاً، في المرحلة المقبلة عبر الحوار".
ورأى منصور أنّ "كون قيادة الإضراب هي مرجعية المستوى السياسي في حركة حماس، فإنّ ذلك جنّب الأسرى أياماً أطول من الإضراب عن الطعام، وكان ذلك ورقة قوة أدرك نتنياهو أبعادها، وهذا ما نقلته مصر إلى إسرائيل، بأنّ مطالب الأسرى جزء من ترتيبات التهدئة بين حماس وإسرائيل".
ولا يخفي منصور مخاوفه من انقلاب الاحتلال على الاتفاق في أي لحظة، مستذكراً ما حديث عام 2000 عندما خاض أسرى "حماس" إضراباً عن الطعام استمر نحو 18 يوماً، وفاوضوا جهاز "الشاباك" الذي قدّم وقتها موافقة مكتوبة على تركيب هاتف عمومي، لكن سرعان ما انقلب الاحتلال على الاتفاق بعد أيام قليلة من بدء انتفاضة الأقصى.