مع اقتراب كل موعد انتخابي في تونس يشتعل الصراع بين الأحزاب الكبرى المتنافسة لمحاولة استقطاب القواعد الدستورية البورقيبية والتجمعية (نسبة إلى حزب التجمع المنحل). وباستثناء انتخابات 2011 التي شهدت غيابهم بسبب توقيف عدد من رموزهم وملاحقة العديد منهم معنوياً وعدم قبول المشهد الثوري لأي حضور "تجمعي"، فقد اندلعت صراعات كبيرة بين الأحزاب الموالية للسلطة لاستقطابهم ومحاولة الاستفادة من هذا الخزان الانتخابي الكبير، والآلة الانتخابية الجاهزة ذات التجربة المعروفة. وكان أبرز المستفيدين منهم الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي، الذي أحس بأن ذلك الزخم الانتخابي المطارَد بحاجة إلى مظلة حزبية وسياسية تأويه وتتفاوض باسمه وتدافع عنه، وأسس حزب "نداء تونس" الذي قام بالأساس عليهم.
ولم تكن حركة "النهضة" أيضاً بعيدة عن التماس السياسي مع الدستوريين والتجمعيين، ورمى رئيس الحركة راشد الغنوشي بكل ثقله لمنع قانون العزل السياسي. وذكّر بذلك منذ أيام في ميونخ، مشيراً إلى أن "حركة النهضة ساهمت في مدّ جسور التواصل بين الجديد والقديم لتجنب تقسيم البلاد وتجنب الوقوع في ما وقعت فيه بلدان أخرى من انقسام مجتمعي قاد إلى حرب أهلية، وذلك من خلال منع المصادقة على قانون العزل السياسي في العام 2013، والحرص على المصادقة على قانون العدالة الانتقالية خلال السنة ذاتها". وسبق للغنوشي أن التقى عدداً من الشخصيات المعروفة لتطبيع العلاقة بين الجهتين، وذهب الكثيرون إلى اعتبار أن الدستوريين والإسلاميين ينهلون من منبع واحد لوضع حد للصراع الذي تواصل لسنوات طويلة بين الجهتين. لكن الحماسة الذي غذت التوافق بهذا الشأن خفت كثيراً في الفترة الأخيرة.
ومع عودة الانتخابات، المزمع إجراؤها في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، عاد التنافس نفسه على المشهد الدستوري المشتت إلى أحزاب عديدة، يحاول كل منها أن يكون المتحدث باسمها منذ قيام الثورة، لكن دون نجاح لمساعي تجميعها. بل إن الأمر تحول إلى صراعات واتهامات متبادلة بين رموزها المعروفة وصلت إلى حد التخوين. وفيما بقيت مكونات من ذلك المشهد في "نداء تونس" فقد ذهبت أخرى إلى الحزب الجديد "تحيا تونس" وأخرى إلى حركة "مشروع تونس"، بينما أسست قيادات أخرى أحزاباً أهمها "المبادرة" الذي يرأسه كمال مرجان، و"الدستوري الحر" الذي ترأسه عبير موسى، وعدد من الأحزاب السياسية الصغيرة ذات التأثير المحدود جداً في المشهد، فيما خيرت بعض القيادات أن تكون بعيدة عن الانتماء السياسي المباشر، وتحول بعضها إلى مستشارين لبعض الجهات السياسية.
ويعتبر نائب رئيس حزب "المبادرة" حالياً وآخر أمين عام لحزب "التجمع" المنحل، محمد الغرياني، أنه يجب على كل أطراف العائلة الدستورية الجلوس إلى طاولة الحوار، موضحاً أن "الدستوريين" مستهدفون للاستثمار فيهم من قبل كل الأطراف والجهات، مؤكداً أن "حزب المبادرة يسعى للحفاظ على الهوية الدستورية". وهناك صراع جوهري بين مكونات العائلة الدستورية، ليس بسبب الانتماءات الحزبية أو الأغراض الانتخابية فحسب، وإنما أساساً حول مفهوم الثورة لديها. وبينما تعتبر موسى أنها "ثورة مزيفة" ولم تحقق شيئاً وتعادي الإسلاميين بكل قوة، يذهب الغرياني إلى التأكيد على أن "عبير موسى لم تتخلص بعد من ثقافة الماضي ولم تهضم الديمقراطية"، مؤكداً أنه "ينبغي العمل على مصالحة البورقيبية مع الديمقراطية". وأضاف الغرياني، في حوار تلفزيوني، أن "العالم يشهد بمكانة رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، وأن الحالة التي حكمت صراع التجمعيين مع النهضة انتهت، واليوم لا بد من مراجعة لطبيعة العلاقة، وحركة النهضة حزب سياسي معترف به وفائز في الانتخابات ولا بد من التعامل معه". ويشدد على أن "تونس تعيش مرحلة انتقال ديمقراطي وجب خلالها مراجعة كل الأخطاء السابقة".
وأيده في ذلك رئيس حزب "المبادرة"، كمال مرجان، الذي قال، خلال مؤتمر حزبي منذ أيام، إن "حزب المبادرة سيتعامل مع جميع القوى السياسية من دون استثناء خدمة للمصلحة العليا للبلاد، إلى جانب العمل على تجميع العائلة الدستورية لتكون قوة دعم للسياسات الإصلاحية المطلوبة". وكان مرجان قد أعلن، في تصريح إذاعي، أنه "يفكر بشكل جدي في الترشح للانتخابات الرئاسية في العام 2019، وأنه سيكون سعيداً في حال دعمه من قبل حركة النهضة وترشيحه كشخصية توافقية".
واعتبر رئيس كتلة "الحرة لمشروع تونس" حسونة الناصفي، وهو أحد الوجود الدستورية المعروفة، في تصريح صحافي، أن "العائلة الوسطية والدستورية لن تكون لها فاعلية إلا إذا تجمعت في صف واحد وتوحدت في مشروع سياسي"، مشيراً إلى أن حزبه منفتح على التحالف مع حركة "تحيا تونس" الجديدة، ويمد يده للتحالف مع الأطياف السياسية التي تحمل المشروع والأهداف والبرامج نفسها على غرار "نداء تونس" الذي يضم جزءاً من العائلة الدستورية. وبقطع النظر عن الصراعات الجانبية بين المكونات الدستورية، ومع ارتفاع حرارة الاستعداد للانتخابات، عاد التنافس حول رموز "الدستوريين"، ونشرت أخبار متضاربة حول إمكانية انضمام أحد أبرز رموزها المؤثرة، منذر الزنايدي، إلى حزب "تحيا تونس" ثم إلى "نداء تونس"، ما دفعه إلى نشر توضيح مطول أكد فيه عدم صحة الأمرين حالياً، ومؤكداً أن هذه المشاورات ما زالت متواصلة ومفتوحة على احتمالات عدة، لكنها لم تفض إلى أي اتفاق. وعبّر الزنايدي عن استغرابه من "حرص وإصرار بعض الماكينات على تغذية الصراعات وتأجيج الخلافات والتصدي لكل محاولات الإصلاح". وكانت تسريبات قد تحدثت عن إمكانية توليه منصب الأمين العام لـ"نداء تونس" بعد استقالة سليم الرياحي، لكن تم التأكد من أنها مجرد مشاورات لم تنته إلى اتفاق بعد.
وتؤكد المعلومات التي حصلت عليها "العربي الجديد" في هذا الخصوص، وجود مشاورات متقدمة مع "نداء تونس"، على الرغم من أن الزنايدي لا يزال متردداً، وهو انضمام تشجّع عليه جهات كثيرة في "نداء تونس" وخارجه، وتعتبر أنه يمكن أن يشكّل تحوّلاً مهماً في أوضاع هذا الحزب حالياً، وإذا ما نجحت هذه المشاورات التي يتابعها السبسي، فقد يتم الإعلان قريبا جداً عن انضمام الزنايدي لـ"النداء" وإدخال تغييرات مهمة على هيكلية الحزب.
وتدور هذه الأيام نقاشات في البرلمان لإلغاء فصل من القانون الانتخابي يتعلق بمنع التجمعيين من رئاسة وعضوية مكاتب الاقتراع، وهو مقترح من حزب "مشروع تونس" ويلقى دعماً من "النداء" ومن بقية الأحزاب التي تضم تجمعيين ودستوريين، لكن تم تأجيل النظر فيه مع بقية التنقيحات المقترحة على القانون الانتخابي، ريثما يتم التوصل إلى توافق مع بقية الكتل حول هذا الموضوع.