بوفاة رئيس الأركان الجزائري الفريق أحمد قايد صالح، أمس الاثنين، تكون الجزائر بصدد طي صفحة جيل عسكري كامل مرتبط بفترة ثورة التحرير، ويحظى بـ"الشرعية الثورية"، إذ لم يبق من هذا الجيل العسكري في صفوف الجيش سوى قائدان، هما قائد الأركان الجديد بالنيابة اللواء سعيد شنقريحة وقائد الحرس الجمهوري اللواء علي بن علي. وطوى الموت جيل الثورة على غرار قائد الأركان السابق محمد العماري والجنرال شريف فوضيل وعبد المالك قنايزية والعربي بلخير، أو بالاستبعاد من الجيش على غرار وزير الدفاع السابق خالد نزار والفريق محمد مدين، أو الملاحقة القضائية على غرار سعيد باي وشريف عبد الرزاق.
لكن نهاية هذا الجيل وسعي من تبقى منه لضمان انتقال سلس للقيادة العسكرية إلى جيل العسكريين ما بعد الثورة، المستند إلى التقنية والمعرفة والتكوين العلمي، يأتي في ظل تحول سياسي عميق تشهده الجزائر، وفي ظل تصاعد المطالب الشعبية لإنهاء تدخل الجيش في القرارات والخيارات السياسية للبلاد، وفي ظرف يتسم باحتكاك وتصادم الخيارات بين الحراك الشعبي الذي يدفع إلى ذلك، ورغبة المؤسسة العسكرية في الحفاظ على تدخلها ورعايتها للسلطة. من هنا، يمكن لكثيرين إيراد العديد من النقاط السلبية التي تحتسب على الرجل، خصوصاً لناحية رعاية السلطة طيلة هذه الفترة في مواجهة الرغبة الشعبية، لكن لا يمكن تجاوز أنه في عهد قايد صالح، ومنذ انطلاق الانتفاضة في فبراير/شباط الماضي، لم يقتل متظاهر واحد على يد قوات الجيش أو الشرطة، وهذا بحد ذاته ليس بالأمر التفصيلي في بلد مثل الجزائر. كذلك يستحيل ذكر سيرة قايد صالح من دون الإشارة إلى أن الرجل لم يستولِ على السلطة بعدما أطاح، هو والانتفاضة، سلطة بوتفليقة وما يسمى في الجزائر "العصابة". وهذا بدوره أمر شديد الأهمية في بلد مثل الجزائر تعرف جيداً النتائج الدموية لبعض خيارات المؤسسة العسكرية تاريخياً.
وكان الخميس الماضي موعد آخر ظهور لقايد صالح، حين تم تقليده وسام الاستحقاق الوطني، من قبل تبون. وتوفي قايد صالح عن عمر ناهر 80 عاماً (من مواليد 13 يناير/كانون الثاني 1940 بولاية باتنة شرقي الجزائر)، عقب سكتة قلبية مفاجئة. ويمتد المسار العسكري لقايد صالح إلى أكثر من 60 سنة، بدأه في صفوف جيش التحرير خلال ثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، وهو ما يجعله من بين القيادات العسكرية الثورية، ومن خارج ما يعرف بمجموعة "ضباط فرنسا"، وهم مجموعة الضباط الذين كانوا ينتسبون إلى الجيش الفرنسي زمن ثورة التحرير قبل أن يلتحقوا في ربع الساعة الأخير بالثورة، ولعبوا دوراً مركزياً في محطات سياسية بارزة، أبرزها قرار الانقلاب على الرئيس الشاذلي بن جديد ووقف المسار الانتخابي في يناير/كانون الثاني 1992. بعد الاستقلال مباشرة، أرسل قايد صالح إلى الأكاديمية العسكرية "فيستريل" بموسكو في الاتحاد السوفييتي سابقاً. ودفعت التطورات التي شهدتها المنطقة العربية إلى إيفاده برفقة قوات جزائرية إلى جبهة القتال في حرب يونيو/حزيران 1967، للمشاركة في الحرب العربية الإسرائيلية، حيث ظل هناك حتى عام 1968. كما شارك في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وفي الجزائر، تقلد قايد صالح عدداً من المناصب العسكرية، من بينها قائد كتيبة مدفعية، ثم قائد للواء وقائد القطاع العملياتي الأوسط ببرج لطفي جنوبي الجزائر، وقائد مدرسة تكوين ضباط الاحتياط بالبليدة وسط البلاد. كما تقلد منصب قائد للقطاع العملياتي الجنوبي لتندوف جنوبي الجزائر، قبل أن يعين نائباً لقائد الناحية العسكرية الخامسة التي تضم الصحراء، ثم قائداً للناحية العسكرية الثالثة، وبعدها للناحية العسكرية الثانية. وفي عام 1993، تمت ترقيته إلى رتبة لواء، قبل أن يعين في 1994 قائدا للقوات البرية، وفتح المنصب الأخير له الباب لاعتلاء منصب قائد الأركان.
اقــرأ أيضاً
أبرز محطة عسكرية لقايد صالح كانت في عام 2004، حيث كان الأخير أقرب ما يكون للإحالة على التقاعد. وتشير معلومات متطابقة إلى أن قائد أركان الجيش حينها محمد العماري قدم قائمة إلى الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة بأسماء كبار القيادات العسكرية المرشحة للإحالة إلى التقاعد، لكن بوتفليقة الذي كان يبحث عن مخارج للإفلات من قبضة العسكريين الذين أتوا به إلى سدة الحكم عام 1999، وجد في ذلك فرصة لضرب عصفورين بحجر واحد: إقالة قائد الأركان العماري وضم قايد صالح إلى صفه عبر إنقاذه من الإحالة إلى التقاعد، وتعيينه قائدا للأركان، إذ تشير المعلومات نفسها إلى أن بوتفليقة استدعى قايد صالح إلى الرئاسة وأبلغه بوجود اسمه في قائمة المقترحين للإحالة على التقاعد بطلب منه، لكن قايد صالح أبلغه أنه لم يقدم طلبا للتقاعد، وأن هذه الخطوة منفردة من قائد الأركان، وتستهدف استبعاده من الجيش.
وعقب الانتخابات الرئاسية، التي شهدت منافسة بين بوتفليقة ورئيس حكومته آنذاك علي بن فليس، إذ كان الأخير مدعوماً من قبل قائد أركان الجيش حينها محمد العماري، قام بوتفليقة بتنحية العماري، وتسمية قايد صالح رئيسا لأركان الجيش، ثم تقليده رتبة فريق سنة 2006، تم تعيينه نائباً لوزير الدفاع الوطني في 2013، بعد تعرض بوتفليقة لوعكة صحية في إبريل/نيسان من نفس السنة. وكان هذا القرار المزدوج: التعيين في أعلى منصب والإنقاذ من الاستبعاد والتقاعد، سبباً كافياً لبقاء الفريق قايد صالح، كأكبر سند وداعم لبوتفليقة في الحكم، وفي الحرب الخفية التي كان يقودها بوتفليقة ضد قائد جهاز المخابرات محمد مدين (الموقوف في السجن العسكري) وشبكته، والتي انتهت بإحالته إلى التقاعد في 2015، واسترجاع الجهاز تحت وصاية الرئاسة ثم هيئة الأركان، كما وافق قبل ذلك قايد صالح على دعم ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة في الانتخابات التي جرت في إبريل/نيسان 2014، برغم الوعكة الصحية التي ألمت ببوتفليقة وأبعدته عن المشهد في 2013. وكان قايد صالح يردد في مجمل خطاباته أن "إنجازات الرئيس بوتفليقة لا ينكرها إلا جاحد".
كل المحطات السياسية والعسكرية لقايد صالح يمكن وضعها في كفة، لكن دوره بعد الحراك الشعبي الذي اندلع في 22 فبراير/شباط الماضي يوضع في كفة أخرى. ففي بداية الحراك الشعبي، ظل موقف قايد صالح ملتبساً، إذ وافق على ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة. ووصف التظاهرات الأولى للحراك بأنها "مسيرات مشبوهة"، و"نداءات مجهولة". لكن التطورات التي حصلت لاحقاً وتعاظم المظاهرات الرافضة للانتخابات، وقرار بوتفليقة إلغاء الانتخابات في 11 مارس/آذار الماضي، دفعت قائد الجيش إلى بدء سباق خفي ضد مجموعة من العسكريين والسياسيين المحيطين بالسعيد بوتفليقة للسيطرة على الوضع. وتحول خطابه لاحقاً في اتجاه تشديد التدابير الأمنية والدعوة للاستجابة لمطالب الشعب. وأعلن في خطاب في 30 مارس دعوته إلى تطبيق المادة 102 من الدستور والتي تعني استقالة بوتفليقة من منصبه. وهيمن قايد صالح على المشهد السياسي والإعلامي منذ نهاية مارس الماضي، متحدثا باسم السلطة، إذ كان يظهر بصفة الحاكم الفعلي للبلاد. وصدرت أبرز القرارات من مكتبه، بما فيها تحديد تاريخ الانتخابات الرئاسية التي جرت في 12 ديسمبر/كانون الأول الحالي.
اقــرأ أيضاً
لكن نهاية هذا الجيل وسعي من تبقى منه لضمان انتقال سلس للقيادة العسكرية إلى جيل العسكريين ما بعد الثورة، المستند إلى التقنية والمعرفة والتكوين العلمي، يأتي في ظل تحول سياسي عميق تشهده الجزائر، وفي ظل تصاعد المطالب الشعبية لإنهاء تدخل الجيش في القرارات والخيارات السياسية للبلاد، وفي ظرف يتسم باحتكاك وتصادم الخيارات بين الحراك الشعبي الذي يدفع إلى ذلك، ورغبة المؤسسة العسكرية في الحفاظ على تدخلها ورعايتها للسلطة. من هنا، يمكن لكثيرين إيراد العديد من النقاط السلبية التي تحتسب على الرجل، خصوصاً لناحية رعاية السلطة طيلة هذه الفترة في مواجهة الرغبة الشعبية، لكن لا يمكن تجاوز أنه في عهد قايد صالح، ومنذ انطلاق الانتفاضة في فبراير/شباط الماضي، لم يقتل متظاهر واحد على يد قوات الجيش أو الشرطة، وهذا بحد ذاته ليس بالأمر التفصيلي في بلد مثل الجزائر. كذلك يستحيل ذكر سيرة قايد صالح من دون الإشارة إلى أن الرجل لم يستولِ على السلطة بعدما أطاح، هو والانتفاضة، سلطة بوتفليقة وما يسمى في الجزائر "العصابة". وهذا بدوره أمر شديد الأهمية في بلد مثل الجزائر تعرف جيداً النتائج الدموية لبعض خيارات المؤسسة العسكرية تاريخياً.
وفي الجزائر، تقلد قايد صالح عدداً من المناصب العسكرية، من بينها قائد كتيبة مدفعية، ثم قائد للواء وقائد القطاع العملياتي الأوسط ببرج لطفي جنوبي الجزائر، وقائد مدرسة تكوين ضباط الاحتياط بالبليدة وسط البلاد. كما تقلد منصب قائد للقطاع العملياتي الجنوبي لتندوف جنوبي الجزائر، قبل أن يعين نائباً لقائد الناحية العسكرية الخامسة التي تضم الصحراء، ثم قائداً للناحية العسكرية الثالثة، وبعدها للناحية العسكرية الثانية. وفي عام 1993، تمت ترقيته إلى رتبة لواء، قبل أن يعين في 1994 قائدا للقوات البرية، وفتح المنصب الأخير له الباب لاعتلاء منصب قائد الأركان.
أبرز محطة عسكرية لقايد صالح كانت في عام 2004، حيث كان الأخير أقرب ما يكون للإحالة على التقاعد. وتشير معلومات متطابقة إلى أن قائد أركان الجيش حينها محمد العماري قدم قائمة إلى الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة بأسماء كبار القيادات العسكرية المرشحة للإحالة إلى التقاعد، لكن بوتفليقة الذي كان يبحث عن مخارج للإفلات من قبضة العسكريين الذين أتوا به إلى سدة الحكم عام 1999، وجد في ذلك فرصة لضرب عصفورين بحجر واحد: إقالة قائد الأركان العماري وضم قايد صالح إلى صفه عبر إنقاذه من الإحالة إلى التقاعد، وتعيينه قائدا للأركان، إذ تشير المعلومات نفسها إلى أن بوتفليقة استدعى قايد صالح إلى الرئاسة وأبلغه بوجود اسمه في قائمة المقترحين للإحالة على التقاعد بطلب منه، لكن قايد صالح أبلغه أنه لم يقدم طلبا للتقاعد، وأن هذه الخطوة منفردة من قائد الأركان، وتستهدف استبعاده من الجيش.
كل المحطات السياسية والعسكرية لقايد صالح يمكن وضعها في كفة، لكن دوره بعد الحراك الشعبي الذي اندلع في 22 فبراير/شباط الماضي يوضع في كفة أخرى. ففي بداية الحراك الشعبي، ظل موقف قايد صالح ملتبساً، إذ وافق على ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة. ووصف التظاهرات الأولى للحراك بأنها "مسيرات مشبوهة"، و"نداءات مجهولة". لكن التطورات التي حصلت لاحقاً وتعاظم المظاهرات الرافضة للانتخابات، وقرار بوتفليقة إلغاء الانتخابات في 11 مارس/آذار الماضي، دفعت قائد الجيش إلى بدء سباق خفي ضد مجموعة من العسكريين والسياسيين المحيطين بالسعيد بوتفليقة للسيطرة على الوضع. وتحول خطابه لاحقاً في اتجاه تشديد التدابير الأمنية والدعوة للاستجابة لمطالب الشعب. وأعلن في خطاب في 30 مارس دعوته إلى تطبيق المادة 102 من الدستور والتي تعني استقالة بوتفليقة من منصبه. وهيمن قايد صالح على المشهد السياسي والإعلامي منذ نهاية مارس الماضي، متحدثا باسم السلطة، إذ كان يظهر بصفة الحاكم الفعلي للبلاد. وصدرت أبرز القرارات من مكتبه، بما فيها تحديد تاريخ الانتخابات الرئاسية التي جرت في 12 ديسمبر/كانون الأول الحالي.