هذه المباراة تعني أيضاً الغرب ضدّ الشرق على عكس ما قاله المدرب، وقد يُفاجأ القارئ العربي من أن هذا التصنيف ما زال موجوداً بعد مرور ثلاثين عاماً على سقوط جدار برلين، لكن الواقع كذلك.
سقط هذا الجدار في مثل هذا اليوم قبل ثلاثين عاماً، أي في التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1989، وبعدها بحوالي سنة، تحديداً في الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول 1990، أُعلن رسمياً عن توحيد ألمانيا، وهو التاريخ الذي خصص له الألمان يوم عطلة رسمية ومناسبة سنوية للاحتفال أيضاً.
إنجاز الوحدة الذي تمكنت ألمانيا من تحقيقه بعد عقود من التفرقة الجبرية تحوّل إلى درس. مجهود جبار بُذل لتوحيد شطري بلد واحد بطريقة سلمية حضارية. التأم شمل عائلات فرقها الجدار وأصبح الشعب الألماني واحداً مرة أخرى. صورة إيجابية فريدة من نوعها. لكن التمعن جيداً في تفاصيل هذه الصورة يظهر شقوقاً وندوباً غائرة... جدار ما زال قائماً وإن سقط طوبه وحجره قبل ثلاثين عاماً.
توحيد أم التهام لألمانيا الشرقية؟
التناقض في أسلوب الحياة بين الألمانيتين قبل التوحيد كان حاضراً بشكل أكبر في برلين، وبالتالي فبعد سقوط الجدار يحضر موضوع الفروق بين الشرقيين والغربيين بشكل أكبر أيضاً في برلين مقارنة مع الولايات التي كانت مقسمة بالكامل بين الحلفاء والاتحاد السوفييتي. فالصدفة وحدها أصدرت حكماً على سكان في رقعة صغيرة بالانقسام إلى عالمين مختلفين متناقضين، واحد شيوعي والآخر رأسمالي، وليس ولاءاتهم وأيديولوجياتهم ولا اختيارهم الخاص. وهكذا وجد جزء من البرلينيين أنفسهم يعيشون حياة متقشفة قمعية، يقطنون شققاً ضيقة وينتظرون عشر سنوات على الأقل للحصول على سيارة، ولا يجرؤون على التعبير عن آرائهم السياسية النقدية، بينما على بُعد كيلومترات أو حتى أمتار، يعيش ألمان آخرون، ربما منهم أقارب لهم، حياة بمستوى آخر: رواتب أفضل وترف ورفاهية وحرية أكثر.
قرار بناء جدار برلين جاء كرد فعل على تنامي موجة الهروب نحو ألمانيا الغربية. فبعد فرار أعداد كبيرة قُدّرت بمليونين ونصف المليون شخص، شددت سلطات ألمانيا الشرقية الخناق على التنقل. لكن حتى مع بناء الجدار، غامر الكثيرون من أجل الهروب، فدفع العشرات حياتهم ثمناً لمحاولة الفرار إلى ألمانيا الغربية.
الوصف الأقرب لما حدث ابتداءً من عام 1990 في الواقع ليس توحيداً، بل التهام من ألمانيا الغربية للشرقية. وكأن دولة استولت على أخرى مختلفة تماماً، فغيّرت ملامحها وقضت حتى على الأمور الإيجابية فيها. على سبيل المثال لا الحصر، الشركات التي كانت ناجحة في ألمانيا الشرقية أغلقت بعد "التوحيد" في إطار عملية الخصخصة التي قادتها هيئة "ترويهاند" بتكليف من سلطات ألمانيا الغربية، ليجد موظفو هذه الشركات أنفسهم عاطلين من العمل. علاوة على المهن والقطاعات التي اختفت لأنها لا تناسب ألمانيا الغربية، وتفاوت العدالة الاجتماعية بين السكان، وكذلك امتياز المساواة في الأجور بين الجنسين والتسهيلات التي كانت تحظى بها النساء لتشجيعهن على العمل في الشرقية... هذا فضلاً عن النظام الاشتراكي نفسه الذي لم يكن الجميع يرغب بالضرورة في إلغاء ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية فيه، وتعويضه بنظام رأسمالي، وإنما تحسينه.
ما حدث هو توحيد غير متكافئ، فعوض خلق نظام بالتدريج يمزج العالمين ويستوعبهما، وجد الشرقيون أنفسهم مضطرين لتحمّل جهود الاندماج في مجتمع جديد مختلف تماماً ومتطور، وهم يفتقرون إلى الإمكانيات التي أتيحت لسكانه الذين واصلوا حياتهم كما هي. فبدأ يتنامى لدى جزء من الشرقيين الشعور بنوع من المظلومية وعدم الرضا والتهميش، لتخلق فجوة وتنتشر أحكام القيمة والتصنيفات من قبيل "الغربيون المغرورون، السطحيون الذين لا يرحمون" و"الشرقيون الكُسالى الأغبياء الغارقون في دور الضحية".
هذه الفجوة بين أبناء الشعب الواحد تقلصت إلى حدّ ما مع مرور الزمن، لكنها لم تغلق نهائياً. وكذلك الفروقات بين الألمانيتين، فإلى يومنا هذا ما زال اقتصاد ألمانيا الشرقية لا يعادل سوى 75 في المائة من اقتصاد الغربية. وعلى الرغم من توحّد النظام السياسي، لم تتوقف الهجرة من ألمانيا الشرقية نحو الغربية، لدرجة أنّ عدد سكان ألمانيا الشرقية حالياً تقلص إلى ما كان عليه في العام 1905، بينما تزايد سكان الغربية بأكثر من الضعف. وما زال مستوى العيش متفاوتاً بين الألمانيتين حتى على مستوى الأجور والتقاعد. فالأجور في الغربية أعلى بحوالي 17 في المائة، على الرغم من أن عدد ساعات العمل أقل منه في الشرقية. مسألة الفروقات في الدخل هذه نقطة مهمة تركز عليها الدراسات والإحصاءات التي تتناول أسباب حالة عدم الرضا لدى سكان الشرقية. واليوم، وبعد مرور ثلاثة عقود على سقوط الجدار والوحدة، يرى 50 في المائة من سكان ألمانيا الشرقية أن توحيد البلاد لم يكن ناجحاً، مقابل 47 في المائة ممن يعتقدون العكس، كما جاء في استطلاع رأي أجرته مجلة "فوكوس".
"ادمجونا أولاً"
انتقادات الشرقيين لم تتوقف عند طريقة التوحيد والفروقات التي ما زالت قائمة اقتصادياً على الأقل، بل إنّ القيم الغربية التي يفترض أنّ ألمانيا الشرقية أصبحت تحظى بها بعد التوحيد لتعوض حالة الاستبداد السائدة في العهد الاشتراكي، تواجه حتى هي بتشكيك. في استطلاع أجرته صحيفة "تسايت" الألمانية السنة الماضية، قال 41 في المائة من سكان ألمانيا الشرقية إنّ حرية التعبير لديهم حالياً ليست أفضل، مقارنة مع ما كانت عليه الحال في عهد الحكم السوفييتي، فيما قال 58 في المائة إنهم لا يشعرون بحماية أفضل من استبداد الدولة مقارنة مع العهد السابق، بل إن 22 في المائة منهم يشعرون حتى أنّ الوضع صار أسوأ. وبغض النظر عما إذا كانت هذه الأرقام تحاكي الواقع فعلاً أم أنها تعبير عن استياء من النظام الحالي، إلا أنها تبقى أرقاماً صادمة، وليست ما يتوقعه المرء في سياق الحديث عن ثمار التوحيد بعد كل هذه السنين.
وإلى الآن، يجري الحديث في ألمانيا عن مصطلحات مثل "الجدار في العقول" و"مواطنون من الدرجة الثانية" و"إدماج الألمان الشرقيين"، بل ومقارنات بين "ما تقدمه الدولة للمهاجرين واللاجئين" وما قدمته للألمان الشرقيين أنفسهم. في هذا السياق ظهرت مثلاً دعوات من كتّاب شرقيين إلى الدولة لإدماج هذا القسم من الألمان أولاً عوض الاستثمار الكبير في برامج الاندماج التي تخصصها ألمانيا للأجانب، خصوصاً المهاجرين الأتراك والعرب في المجتمع الألماني.
وفي السنوات الأخيرة، اتخذت الأمور أبعاداً أخرى، ولم تتوقف عند الحديث عن "تحديات الإدماج واستكمال التوحيد". هذا "الفشل في سيرورة إدماج الشرقيين" تحوّل إلى ورقة عرف وافد سياسي جديد كيف يستخدمها. حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي استغل مشاعر الاستياء والحنق لدى سكان ألمانيا الشرقية، فبات يحقق نتائج متقدمة في انتخابات الولايات الشرقية. وفي أحدث انتخابات للولايات عرفتها ألمانيا، حقق الحزب 24 في المائة متجاوزاً أحزاب الائتلاف الحكومي، وهي نسبة بالكاد يحقق نصفها في الولايات الغربية. وجد الحزب في مناطق ما زالت تعيش أزمة هوية وتنتشر فيها جرائم العنصرية أكثر من بقية مناطق البلاد حاضنة شعبية، وسكانها وجدوا فيه طريقة للاحتجاج على النظام الذي يعتبرون أنه لم يكن منصفاً معهم.
مسار حزب "البديل من أجل ألمانيا" يشكل لوحده مؤشراً آخر على أن الشرق والغرب ما زالا منقسمين ولم يتوحدا فعلياً. واقع يستفيد الحزب منه لمواصلة تقدمه، مهدداً ليس فقط مستقبل النظام الحالي، بل ما بنته البلاد طيلة هذه العقود من ثوابت الديمقراطية وحقوق الإنسان والانفتاح على الآخر.
لقد تجاهل الغربيون ربما مدى صعوبة التحديات التي طرحها التوحيد بالنسبة لسكان ألمانيا الشرقية. لم يكن هناك، على الأرجح، وعي كافٍ بمدى تعقيد سيرورة هذا الانتقال المفاجئ والمتطرف من حياة إلى أخرى مختلفة تماماً، فكل ما يحدث بقوة ودفعة واحدة يُحدِث صدمة وهذه الصدمة خففها الزمن لكنه لم يمحها.
وبين من يقول إنّ الوحدة نجحت فعلاً وكل شيء على ما يرام، ومن يعتبر أن ألمانيا لم تتوحد أصلاً، يمكن القول إنّ التوحيد حصل بعد مجهود جبار وفي مشهد غير مسبوق، ولكن بطريقة خاطئة كانت على حساب أحد الطرفين، وتداعياتها ستجعل جداراً من نوع آخر قائماً على الأقل لأجيال أخرى.