كشف الرئيس التونسي قيس سعيّد أكثر من مرة عن تصوّره للعلاقات الدولية، وعبّر خلال حملته الانتخابية وفي المناظرة التلفزيونية وفي خطاب القَسَم، عن طموحه في إرساء علاقات متكافئة تقوم على المصالح المشتركة وتضع حداً لهيمنة بعض الدول. وكان أكثر وضوحاً في ما يتعلق بموقفه من القضية الفلسطينية وملف التطبيع، ولكنها مسألة لا تعني الداخل التونسي بل تبدّل مواقف بعض الدول العربية مثل البحرين والسعودية وغيرهما في مسألة التطبيع. يعني هذا أن الدبلوماسية التونسية ستكون مضطرة للتموضع عربياً، وعدم الاكتفاء بالصمت والحياد والمشاركة الخفية في بعض المحافل ذات الشبهة التطبيعية مع إسرائيل. وطرح مراقبون فرضية ما إذا كان سعيّد يملك أدوات فعلية تمكنه من بلورة هذه التصورات وإحداث تغييرات حقيقية في مستوى العلاقات الدولية، التي تهمها مباشرة من ناحية والتي تتعلق بالقضايا الدولية من ناحية أخرى. وجاءت إقالة وزير الشؤون الخارجية خميس الجهيناوي من منصبه، لتعكس رغبة القصر الرئاسي في إجراء تغييرات سريعة على البنية الدبلوماسية التونسية وتوجيه رسائل متعددة للداخل والخارج. مع أن الجهيناوي أكد بنفسه في تصريحات إثر الإقالة أو الاستقالة، أنه طلب أكثر من مرة لقاء سعيّد ولكنه جوبه بالصمت، ما يعني أن قرار استبعاده كان حاجة سريعة وملحّة لدى قرطاج، ربما بسبب الإلمام الواضح لمدير الديوان الرئاسي، عبد الرؤوف بالطبيب، بملفات الوزارة. كما رحّبت نقابة السلك الديبلوماسي بقرار إقالة الجهيناوي، معتبرة أن هذه الإقالة ستكون بداية لعهد جديد في وزارة الخارجية. واعتبر أحد الدبلوماسيين في حديثٍ لإذاعة "شمس" أن إقالة الجهيناوي في محلّها، في ظل الأوضاع المتردّية في وزارة الخارجية سواء بظروف العمل أو بالتعيينات.
وخرج قنصل تونس في مالطا، محمد هيثم بلطيف، أمس الأربعاء، مؤكداً في حديثٍ لإذاعة "موزاييك" عن "وجود شبهات فساد مالي بسفارة تونس بمالطا، تتمثّل في 'المسّ' بمعلومات ووثائق سرية للدولة وتسريبها والاستيلاء على أموال عمومية وإخفاء أوراق سرية"، مبيناً أنّه "تم إعلام الوزارة بكل هذه الملفات لكنّها لم تتّخذ أي إجراء في الغرض" وفق ما نقلته الإذاعة. واعتبر آخرون أن إقالة الجهيناوي تشكل أبعاداً لكل شبهات التطبيع، وقد أثيرت منذ تعيين الجهيناوي الذي نفاها بالكامل وقتها.
بدوره، أكد السفير السابق، أحمد ونّيس، في حديثٍ لـ"العربي الجديد" أنّ استقالة الجهيناوي لم يتم اعتبارها على أنها استقالة بل إقالة، معتبراً أن هذا خطأ إذ إن وزير الخارجية عندما يقدّم استقالته لأسباب يراها قوية، دفاعاً عن كرامته والضوابط المعمول بها في الدولة، وهذا الأمر لا يحرج أي طرف، فلماذا يتم تشويه الاستقالة التي تصون كرامة الشخص ويتم الحد من مكانته؟ وأضاف ونّيس أن ما حصل يمثل بداية صعبة في مجال السياسة الخارجية ولكن هذا الأمر لا يمكن تضخيمه لأنه مجرد بداية. وفي ما يتعلق باستراتيحية سعيّد وتصوّراته الكبرى بشأن الملفات الدولية، عبّر ونّيس عن أمله في نجاح الرئيس الجديد، لأن في نجاحه نجاحا لتونس، معتبراً أن سعيّد ليس له حالياً برنامج جاهز في السياسة الخارجية بل أفكار عامة تم التطرق إليها في المناظرة التلفزيونية التي جمعته بالمرشح نبيل القروي، وأيضاً في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة أداء القسم.
وأوضح ونّيس أنّ الأفكار العامة تتضمن مسائل هامة مثل الحد من المديونية والدفاع عن القضايا العادلة كالقضية الفلسطينية، مشيراً إلى أن هذه الأفكار تتضمن ملامح عامة وأفكاراً، منوّهاً إلى أن تأكيد سعيد على المحافظة على المصالح السامية للدولة التونسية، لا يتضمن أي جديد إذ إن أغلب الحكومات المتعاقبة احترمت المعاهدات الدولية، وهذه المعاهدات يتم تحضيرها والنقاش حولها وتمر عبر سلسلة من المحطات الرقابية ثم تزكى برلمانياً.
لكن التأمل في خطابات سعيّد ومواقفه يشير إلى أن لديه رغبة وطموحاً في إدخال تغييرات على علاقات تونس مع أبرز المؤثرين في اقتصادها. وقال في خطاب أداء القسم "من الرسائل التي يتم توجيهها في هذا الموقف ومن هذا المكان، على الرغم من أنه ليس هناك ما يدعو إلى إرسالها إثر كلّ انتخابات لأنّ تونس دولة مستمرّة بمؤسّساتها، لا بالأشخاص الذين يتولون إدارتها، أنّ الدولة التونسيّة ملتزمة بكلّ معاهداتها الدوليّة، وإن كان من حقّها أن تطالب بتطويرها في الاتّجاه الذي يراعي مصالح شعبنا ومصالح كلّ الأطراف، وأهمّ من المعاهدات المكتوبة والبنود والفصول هو التفاهم بين الأمم والشعوب، من أجل الإنسانيّة جمعاء".
ويحمل هذا الموقف محاولة لطمأنة شركاء تونس من الذين عبّروا عن مخاوفهم من المشهد الجديد. ويؤكد مصدر مطلع لـ"العربي الجديد"، أن عدداً كبيراً من سفراء الدول الغربية زار مسؤولين حكوميين لمحاولة فهم المعادلات التونسية الجديدة وتفكيك شفرة التصريحات القوية التي صدرت خلال الحملات الانتخابية على لسان سعيّد، خصوصاً من نواب تم انتخابهم أخيراً. لذلك جاء تطمين سعيّد واضحاً خلال خطابه الافتتاحي، بأن الدولة مستمرة في الالتزام بتعهداتها، وإن كان راغباً في "تجاوز المواثيق المكتوبة إلى التفاهم بين الشعوب والأمم". ولم يتأخر ردّ أوروبا على هذه الرغبة، وجاءت تهنئة الاتحاد الأوروبي عبر التشديد على "أنه يأمل في تعميق الشراكة مع تونس لمواجهة التحديات المشتركة، ولكن وفق القيم والمبادئ التي تقوم عليها هذه الشراكة".
من جهته، رأى المحلل سمير بوعزيز أن ما ورد برسالة التهنئة كان إيعازاً من الاتحاد الأوروبي بتلقيه إشارات سعيّد التي وجّهها في خطابه. وفسّر بوعزيز لـ"العربي الجديد"، أنه "من الطبيعي أن يرد الاتحاد الأوروبي بهذا التذكير، فما يهمه أولاً هو مصالحه واستقراره وأن لا يتم المساس بها مهما يكن من متغيرات الحكم في تونس". وأمل بوعزيز أن لا تتلقى الرئاسة التونسية هذه الرسائل على نحو يرهبها ويكبح رغبتها في مراجعة بعض الاتفاقيات. وأشار إلى أن مسألة الاتفاقيات مسألة نهج الفوقية في تعامل الاتحاد الأوروبي مع الطرف التونسي، كما ظهر في تعليق مفاوضات الاليكا (مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق بين تونس والاتحاد الأوروبي) مراراً كلما كانت المفاوضات لا تخدم رؤيته.