ملهاة لجنة الدستور السوري: النظر فيه أو نَصّ جديد؟

30 أكتوبر 2019
تنطلق أعمال اللجنة اليوم في جنيف (الأناضول)
+ الخط -
لم تكن ولادة اللجنة الدستورية السورية، التي تنطلق أعمالها اليوم في جنيف اليوم، بالسهلة، بل كانت عسيرة وتطلّبت جهداً كبيراً من الأمم المتحدة التي تأمل أن تكون هذه اللجنة بداية نهاية الصراع السوري المتواصل منذ أكثر من 8 سنوات، سال خلالها الكثير من دماء السوريين.

وقبيل الانطلاق الرسمي لأعمال اللجنة، اليوم، شهدت جنيف أمس، اجتماعات متعددة بين الأطراف المعنية. وعقد وفد المعارضة اجتماعات مع سفراء دول أصدقاء سورية، وهم ممثلو 15 دولة، من بينهم الولايات المتحدة. كما عقد وفد مصغّر لقاء مع الوفد الروسي برئاسة مبعوث الرئيس الروسي إلى سورية ألكسندر لافرنتييف، وترأس وفد المعارضة رئيس هيئة التفاوض نصر الحريري. كما التقى وفد المعارضة وفد الأمم المتحدة برئاسة المبعوث الأممي غير بيدرسن في المقر الأممي، استكمالاً للتحضيرات، في حين عقد وزراء خارجية الدول الضامنة، التركي مولود جاووش أوغلو، والروسي سيرغي لافروف، والإيراني محمد جواد ظريف، لقاء ثلاثياً، قبل أن يجتمعوا مع المبعوث الأممي.

في غضون ذلك، نفت مصادر في المعارضة لـ"العربي الجديد"، تلقيها أي مسودة للدستور، موضحة أنها استعدت لكافة السيناريوهات، وهي تفضّل أن يكون النظام المقبل للبلاد نصف رئاسي، أي يتقاسم الرئيس والبرلمان السلطات، في حين أن التوجّه الدولي هو نحو استكمال إقرار الدستور والانتقال لبقية بنود القرار الأممي. وأوضحت المصادر أن أعضاء اللجنة الدستورية الـ150 سيبقون في جنيف حتى انتهاء الاجتماعات مع بيدرسن وإلقاء كلمات الجميع، وذلك حتى الثالث من الشهر المقبل، فيما يبقى أعضاء الهيئة المصغرة المكونة من 45 اسماً في جنيف حتى التاسع من الشهر المقبل.

في المقابل، قالت مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد"، إن المجموعة المصغرة التي تقودها الولايات المتحدة، أكدت أن القرار الأميركي والسياسة المحددة للمرحلة المقبلة تقوم بداية على استكمال العملية الدستورية لتستند إليها مرحلة الحل السياسي، تليها انتخابات شفافة عادلة بأعلى المعايير الدولية، وتشكيل حكم مشترك انتقالي لتطبيق الدستور الجديد. وأضافت المصادر أن الولايات المتحدة في اجتماع المجموعة المصغرة مع المعارضة، أكدت بوضوح أن الإدارة الأميركية اتخذت قراراً يفوّض وزارتي الخارجية والخزانة فرض عقوبات على جميع الأطراف التي تعمل على عرقلة العملية الدستورية أو تمنع استمرار عملها أو تعيقها، ما يضع جميع الأطراف تحت الأمر الواقع في ما يتعلق بالعملية الدستورية، ويُظهر الجدية الغربية، خصوصاً الأميركية، في معاقبة أي طرف بما فيها النظام والمعارضة.

ومنذ بداية الثورة السورية في أوائل عام 2011، كان للسوريين الكثير من المطالب السياسية التي كانوا يحلمون أن تنقل بلادهم إلى ضفة الديمقراطية بعد عقود استبداد؛ منها تعديل الدستور السوري الذي وضعه حافظ الأسد في بدايات حكمه في السبعينيات من القرن الماضي، والذي عدّله نجله بشار الأسد عام 2000 خلال دقائق كي تتسنّى له وراثة السلطة. ولطالما كانت المادة الثامنة من دستور الأسد الأب التي تفرض حزب "البعث" قائداً للدولة والمجتمع، محل تندر مر من قبل السوريين.

وبعد أكثر من عام على الثورة السورية، حاول بشار الأسد المناورة والتحايل السياسي لمحاصرة الثورة ومن ثم القضاء عليها، من خلال تغيير الدستور كله وليس المادة الثامنة منه فقط، ولكن كانت الدماء التي سالت على يد الأجهزة الأمنية وقوات النظام قد باعدت بين الأخير والشعب الذي انتقل إلى مرحلة أخرى من ثورته تقوم على إسقاط النظام. ولم يكن دستور 2012 أفضل من سابقه، بل تقريباً نسخة مكررة منه، إذ منح منصب الرئيس صلاحيات مطلقة وسلطة كاملة على الجيش والأجهزة الأمنية، وسمح للأسد بالترشح للرئاسة مرتين وترك الباب موارباً لتعديلات يقصد منها إبقاء الأسد في السلطة إلى الأبد.

في منتصف عام 2012، صدر البيان الشهير في الصراع السوري، وهو ما بات يُعرف بـ"بيان جنيف 1" والذي كان خلاصة جهود الأمم المتحدة والجامعة العربية لإنهاء الصراع. ونص البيان الذي صدر في مدينة جنيف في سويسرا يوم 30 يونيو/حزيران 2012 بعد اجتماع لـ"مجموعة العمل من أجل سورية"، بناءً على دعوة المبعوث المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية إلى سورية حينها كوفي أنان، على "إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية"، وأن "تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية، ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكّل على أساس الموافقة المتبادلة". كما دعا البيان إلى إعادة النظر في "النظام الدستوري والمنظومة القانونية، وأن تُعرض نتائج الصياغة الدستورية على الاستفتاء العام"، وأضاف: "بعد إقامة النظام الدستوري الجديد، من الضروري الإعداد لانتخابات حرة ونزيهة وتعددية وإجراؤها لشغل المؤسسات والهيئات الجديدة المنشأة".

بقي البيان الذي اعتمده مجلس الأمن الدولي حينذاك حبراً على ورق، وهو ما دفع المبعوث الأممي كوفي أنان للاستقالة، كما استقال خلفه الأخضر الإبراهيمي بعد انهيار جولتين من مفاوضات السلام، إلى أن عيّن الأمين العام للأمم المتحدة في منتصف عام 2014 الدبلوماسي الإيطالي-السويدي ستيفان دي ميستورا مبعوثاً دولياً إلى سورية. في 18 ديسمبر/كانون الأول 2015 صوّت مجلس الأمن على القرار الشهير 2254 الذي اعتمد بيان جنيف ودعم بيانات فيينا الخاصة بسورية، باعتبارها الأرضية الأساسية لتحقيق عملية الانتقال السياسي بهدف إنهاء النزاع في سورية. وأعرب القرار عن دعم مجلس الأمن للمسار السياسي السوري تحت إشراف الأمم المتحدة لتشكيل هيئة حكم ذات مصداقية، وتشمل الجميع وغير طائفية، واعتماد مسار صياغة دستور جديد لسورية في غضون ستة أشهر.

وجدّد القرار دعم مجلس الأمن إجراء انتخابات حرة ونزيهة على أساس الدستور الجديد في غضون 18 شهراً تحت إشراف الأمم المتحدة. ولم تستطع الأمم المتحدة إنجاز شيء على صعيد المفاوضات طيلة عام 2016 بسبب تعنّت النظام وسعيه لحسم عسكري يتيح له فرض رؤيته للحل، خصوصاً أن ذاك العام شهد انخراط الروس في الحرب التي استعرت في عموم الجغرافيا السورية، ما أدى إلى بدء تراجع فصائل المعارضة السورية تحت ضربات الطيران الروسي.

في الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف بين المعارضة والنظام والتي عقدت في 23 فبراير/شباط 2017 في مقر المنظمة الأممية في مدينة جنيف السويسرية، طرح المبعوث الأممي دي ميستورا أربع سلال لتسهيل عملية التفاوض بين الطرفين. وتشمل السلة الأولى القضايا الخاصة بإنشاء حكم غير طائفي يضم الجميع، مع الأمل في الاتفاق على ذلك خلال ستة أشهر. وتشمل السلة الثانية القضايا المتعلقة بوضع جدول زمني لمسودة دستور جديد، مع الأمل في أن تتحقق في ستة أشهر. فيما شملت الثالثة كل ما يتعلق بإجراء انتخابات حرة ونزيهة بعد وضع دستور، وذلك خلال 18 شهراً، تحت إشراف الأمم المتحدة، وتشمل السوريين خارج بلادهم. أما السلة الرابعة فتتعلق باستراتيجية مكافحة الإرهاب والحوكمة الأمنية، وبناء إجراءات للثقة المتوسطة الأمد. لكن جهود المبعوث الأممي فشلت في تحقيق تقدّم في المفاوضات في السلال الأربع التي كان من المفترض أن يجري التفاوض حولها بالتزامن مع إعطاء الأولوية للانتقال السياسي.


في يناير/كانون الثاني 2017، عُقدت الجولة الأولى من مسار أستانة الذي كانت روسيا تهدف من خلاله إلى سحب البساط من تحت الأمم المتحدة، وخلق مسار بديل أو موازٍ لمسار جنيف الذي كان يُعقد برعاية الأمم المتحدة وبمرجعيات معروفة وهي قرارات دولية ذات صلة حددت ملامح الحل السياسي. أعطت موسكو أهمية كبيرة للمسألة الدستورية لأنها تدرك أنها الأساس لأي حلول سياسية للقضية السورية، وهي حاولت التسويق لمشروع دستور لسورية وضعه خبراء روس في الجولة الثالثة من المفاوضات، غير أن وفد قوى الثورة العسكري رفض رفضاً مطلقاً مناقشة المسألة الدستورية في أستانة، كما أن النظام استقبل ببرود الفكرة الروسية، ما أجبر موسكو على سحب المشروع من التداول، ولكنها وضعت في اعتبارها التركيز على المسألة الدستورية ووضعها قبل الانتقال السياسي في محاولة لتثبيت بشار الأسد في السلطة.

في مطلع عام 2018 عُقد مؤتمر سوتشي، أو ما سُمي بـ"مؤتمر الحوار الوطني السوري" بحضور وفد موسّع يمثّل النظام والموالين له والبعض من قادة المعارضة المتباينة المواقف. أقر المؤتمر مبدأ اللجنة الدستورية ووجدت الأمم المتحدة نفسها مضطرة للتعامل معها، في ظل غياب إرادة دولية بتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي لا سيما القرار 2254. قسّم دي ميستورا أعضاء اللجنة الدستورية المنوط بها وضع دستور سوري جديد، إلى ثلاث شرائح: ثلث للنظام، وثلث للمعارضة، وثلث للمجتمع المدني (موالاة ومعارضة) تختارهم الأمم المتحدة، على أن يكون أعضاء اللجنة 150 عضواً. ويختار كل طرف 15 عضواً من قائمته للشروع في وضع مسودة الدستور. قدّم نظام الأسد تحت ضغط روسي، قائمة أعضائه في اللجنة الدستورية في أواخر مايو/أيار من العام الماضي، فيما قدّمت المعارضة في يوليو/تموز من العام الماضي قائمة بمرشحيها إلى اللجنة الدستورية، وضمت ممثلين عن مكوّنات الهيئة العليا للتفاوض، من "الائتلاف الوطني السوري"، و"هيئة التنسيق الوطنية" التي ينظر إليها باعتبارها ممثلة لمعارضة الداخل السوري، ومنصتي موسكو والقاهرة، ومستقلين.

ومنذ إقرار مبدأ اللجنة الدستورية في مؤتمر سوتشي، حاول النظام على مدى عام ونصف العام تعطيل تشكيل اللجنة بذرائع مختلفة، خصوصاً أنه تساوى مع المعارضة في اللجنة وهو الذي دأب على وصف المعارضين له بـ"الإرهابيين"، كما أن أي دستور جديد ربما يفتح الباب أمام تغيير عميق في النظام يؤدي إلى تصدعه. اعترض النظام وحلفاؤه الروس على أسماء عدة في قائمة المجتمع المدني، وهو ما حال دون تشكيل اللجنة والشروع في مفاوضات حول الدستور وقضايا الانتقال السياسي. تحت ضغط إقليمي ودولي وافقت المعارضة السورية على البدء في التفاوض حول السلة الثانية، وهي المسألة الدستورية في مخالفة صريحة لمضامين القرارات الدولية، وعلى الرغم من ذلك ظلّ النظام على تعنّته بالتزامن مع تصعيد عسكري بالاشتراك مع الجانب الروسي لدفع المعارضة إلى تنازلات من شأنها تمييع قرارات المجتمع الدولي، ما يؤدي إلى تصفية القضية السورية.

لم يجد دي ميستورا أمامه إلا التنحي عن مهامه، بعدما اتُهم من أطراف عدة بأنه لم يكن وسيطاً نزيهاً، بل كل همه الاستمرار في مهامه وفي سبيل ذلك حرص على إرضاء الجانب الروسي على حساب القرارات الدولية. في بداية العام الحالي، عُيّن الدبلوماسي النرويجي غير بيدرسن مبعوثاً خاصاً جديداً إلى سورية، خلفاً لدي ميستورا، وهو ما أحيا الأمل بتحقيق اختراق سياسي في القضية السورية. أدرك بيدرسن أن ملف الدستور هو الأفضل لتحقيق تقدّم في العملية السياسية، فوضع جهده على هذا الصعيد، وهو ما دفع الثلاثي الضامن في سورية وفق مسار أستانة (تركيا، إيران، روسيا) إلى الموافقة على اللجنة الدستورية وتجاوز كل العقبات (الشكلية) التي كان النظام والروس والإيرانيون وضعوها أمام جهود الأمم المتحدة. وفي منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن القمة الثلاثية بشأن سورية، والتي استضافتها بلاده، وجمعت روسيا وإيران، تمخّضت عن قرار بتشكيل اللجنة الدستورية السورية، التي ستتولى صياغة دستور جديد لسورية، ومباشرة عملها "في أقرب وقت". وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن لائحة اللجنة الدستورية تشكّلت "بعد عمل دقيق من دبلوماسيي" الدول الثلاث، وهو ما صرّح به الرئيس الإيراني حسن روحاني، مضيفاً: "نأمل أن تشرع في عملها بأسرع وقت ممكن".

ومثلما كانت ولادة اللجنة الدستورية عسيرة، من المتوقع أن تكون المفاوضات حول الدستور كذلك، إذ يصر النظام على أن مهمة اللجنة "النظر" في دستور عام 2012 وتعديل بعض مواده، بينما ترى المعارضة أن مهمة اللجنة وضع دستور جديد، مع اعترافها بأن الدستور الحالي يضم العديد من المواد غير المختلف عليها. وتدفع المعارضة نحو اعتماد "النظام المختلط" وتوزيع المهام بين الرئاسات الثلاث لتخليص سورية من الاستبداد والتفرد بالسلطة، في حين يصر نظام الأسد على النظام الرئاسي وحق بشار الأسد في الترشح لدورتين مقبلتين كون الدستور يؤسس لجمهورية جديدة. ومن المتوقع أن يحتدم الجدل حول العديد من القضايا الجوهرية، منها هوية الدولة السياسية والقومية والدينية، في ظل غياب أو تغييب "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) التي تشكّل الوحدات الكردية ثقلها الأكبر، وتسيطر على نحو ثلث سورية، عن اللجنة. وفي حال نجاح اللجنة في كتابة دستور، من المتوقع أن يواجه صعوبات لإقراره في ظل غياب "البيئة الآمنة" لإجراء استفتاء عليه في داخل البلاد وخارجها، كما أن المعارضة تضع شرط إنجاز الانتقال السياسي بالتوازي مع الدستور وهو ما يرفضه النظام.