الفارق كبير بين مشهد الأمس واليوم. إذ حرص السيسي عند توليه الرئاسة في يونيو/حزيران 2014 وفي الشهور التالية، وتحديداً في عام 2015، على القيام بزيارات مختلفة للقضاة، كان أبرزها في يونيو من ذلك العام عندما زار محكمة النقض من دون مناسبة معروفة، وفي سبتمبر/أيلول من العام نفسه عندما زار مجلس الدولة بحجة تجديد مبناه القديم. لكن الأمر لم يكن محوره آنذاك مجرد اختلاق حجة للزيارتين أو ليقدم السيسي دليلاً على تقديره للقضاة، بل كانت الرسالة التي يحاول تكريسها حينها، أنّ نظامه الحاكم يعتمد بصورة مطلقة على القضاء ضلعا ثالثا وأساسيا، إلى جانب الجيش والشرطة، في القاعدة التي يرتكز عليها في ممارساته وسياساته، الأمر الذي تغير حالياً بشكل كبير، تحت وطأة توترات عديدة طرأت على العلاقة بين السيسي والقضاء.
وكشفت مصادر واسعة الاطلاع بوزارة العدل، لـ"العربي الجديد"، تفاصيل مفاوضات ومحادثات جرت بين قضاة المحكمة الدستورية ومسؤولين بارزين في دائرة السيسي، أبرزهم اللواء عباس كامل، مدير المخابرات العامة، واللواء محسن عبد النبي، مدير مكتب رئيس الجمهورية، لإقناع السيسي بالمشاركة في الاحتفال منذ يوليو/تموز الماضي. لكنه في ذلك الوقت، وفق المصادر، لم يرفض بشكل صريح، بل طلب تأجيل الاحتفال إلى ما بعد إتمام عملية اختيار الرئيس الجديد للمحكمة، للمرة الأولى بعد إجراء التعديلات الدستورية الأخيرة في إبريل/نيسان الماضي، والتي أصبح بموجبها قرار تعيين رئيس المحكمة بيد السيسي وحده، بتمكينه من الاختيار من بين أقدم 5 قضاة فيها.
وبحسب المصادر، فإنّ السيسي في ذلك الوقت كان يخشى الاحتكاك بأي من أعضاء المحكمة، ويرغب في الابتعاد عنهم تماماً، حتى لا تبدر منه أي إشارة تفسّر بطريقة إيجابية تجاه أي من الشخصيات المرشحة لرئاسة المحكمة. إلى جانب أنه لم يكن يرغب في الحضور إلى مقر المحكمة الدستورية من الأساس، حتى لا يحسب له أنه "يكرمها"، في وقت يقاطع فيه أي دعوات للهيئات القضائية الأخرى، ويريد كذلك ترسيخ أن "القضاة يتوجهون إليه وليس العكس"، ويبدو أنّ هذه الرؤية هي التي ظلت تحكم ردوده وتفاعل دائرته مع الطلبات المتكررة لتنظيم هذا الحدث، الذي يعتبره القضاة في مصر من بين أكبر الأحداث التذكارية.
وأضافت المصادر أنّه بعد اختيار السيسي لثاني أقدم قضاة المحكمة لرئاستها، وهو سعيد مرعي عمرو، وفقاً للتعديل الدستوري، في إطار هدمه لقاعدة الأقدمية التي كانت متبعة لاختيار رئيس المحكمة منذ 2012، عادت إدارة الأخيرة الكرّة وطلبت حضور السيسي، فتم التحجج بزيارته إلى نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي، وطلبت الرئاسة من المحكمة أن يتم تأجيل الاحتفالية إلى أكتوبر/تشرين الأول الحالي "لعلّ الأوضاع تكون ملائمة لحضور السيسي".
ومع اقتراب موعد الاحتفالية، حاولت المحكمة بشتى الطرق، من اتصال مباشر ووساطات حكومية وعسكرية، أن تضمن حضور السيسي لهذه المناسبة بمقر المحكمة في المعادي، لكن الرئاسة أجابت بالنفي، زاعمةً أنّ هناك اعتبارات أمنية تمنع حضور السيسي إلى هذا المكان، الذي يعتبر في الحقيقة من أسهل المواقع تأميناً في القاهرة، خصوصاً أنه شهد قبل ذلك أداء 3 رؤساء لليمين الدستورية على التوالي؛ محمد مرسي وعدلي منصور والسيسي نفسه في يونيو 2014.
وإزاء الإصرار على تعليق رفض حضور السيسي على صعوبة التأمين، اقترحت المحكمة أن يتم تنظيم الاحتفالية بقاعة المنارة التابعة للجيش، والتي تعتبر المقر الرسمي لاحتفاليات الرئاسة حالياً، لكن المفاجأة أنّ الأخيرة رفضت ذلك أيضاً، وعرضت فقط أن يكون الاحتفال تحت رعاية السيسي من دون حضوره، ما أكّد رؤية الأخير واتجاهه النهائي بمقاطعة احتفاليات وفعاليات القضاة، في الوقت الذي يحرص فيه على حضور جميع فعاليات الجيش والشرطة ومؤسسات حكومية وخاصة أخرى.
وزادت الأمور سوءاً بتزامن الموعد الذي حددته المحكمة للاحتفال على أمل حضور السيسي، مع زيارة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات البنك الدولي، ورئيس مجلس النواب علي عبد العال إلى صربيا للمشاركة في اجتماعات اتحاد البرلمانات العالمي، ليكون أرفع ممثل للدولة في الاحتفالية هو وزير العدل حسام عبد الرحيم.
ولا ينفصل ازدراء السيسي لهذه المناسبة المهمة لدى القضاة عن السياق العام الذي يعمل به ضدّ مصالحهم في الآونة الأخيرة، خصوصاً منذ إجراء تعديلات واسعة على باب السلطة القضائية بالدستور في تعديلات إبريل الماضي، بالنصّ على "استقلال الموازنات الخاصة بالهيئات القضائية" في المادة 185، مع حذف عبارة أن تدرج كل موازنة في الموازنة العامة للدولة "رقماً واحداً" حيث ستتم مراقبة موازنات جميع الهيئات وعلى رأسها المحكمة الدستورية، بتفاصيلها الداخلية وتصرفات الهيئات المختلفة فيها. وبالتالي ينتهي عهد استقلال كل هيئة قضائية بموازنتها ونأيها عن الرقابة الداخلية، لتتحقق بذلك أهداف السيسي، والتي حاول تنفيذها منذ 4 سنوات عندما أصدر سلسلة من القوانين والقرارات لإخضاع القضاة للحد الأقصى للأجور، ولم يكن متمكناً من تنفيذها على نحو كامل بسبب استقلال الموازنات على النحو المقرر في دستور 2014.
كما أضافت التعديلات حماية دستورية على القانون الذي أصدره السيسي في إبريل 2017، والذي يجعله صاحب القرار الأخير في تعيين رؤساء الهيئات القضائية من بين أقدم 7 قضاة، مما أدى إلى انتفاء جدوى الطعون المرفوعة حالياً أمام المحكمة الدستورية على قانون تعيين رؤساء الهيئات، باعتبار أنّ النصوص المشكوك في دستوريتها ستغدو دستوراً بحد ذاتها، وينتفي أساس الطعن فيها.
كما أهدرت التعديلات الخاصة بنصوص المحكمة الدستورية استقلالها بالكامل، إذ أصبح رئيس الجمهورية يختار رئيسها من بين أقدم 5 أعضاء، ويعين عضو المحكمة الجديد من بين اثنين، تُرشِّح أحدهما الجمعية العامة للمحكمة ويُرشِّح الآخر رئيس المحكمة. ويعين السيسي أيضاً رئيس هيئة مفوضي المحكمة وأعضاءها بناء على مقترح من رئيسها، بعد أخذ رأي جمعيتها العامة.
كذلك، سيتم إنشاء المجلس الأعلى للهيئات القضائية برئاسة السيسي الذي سيتحكم بشكل كامل بالمجلس، الذي يضم كلاً من رئيس المحكمة الدستورية ورئيس محكمة النقض ورئيس مجلس الدولة ورئيس النيابة الإدارية ورئيس هيئة قضايا الدولة، بالإضافة إلى رئيس محكمة استئناف القاهرة والنائب العام. وهؤلاء جميعاً في الوقت الحالي معينون باختيار شخصي من السيسي، وهم الذين ستوكل إليهم ـ وفق النص الدستوري الجديد- مناقشة الشؤون المشتركة للهيئات وأعضائها والتعيينات فيها وإبداء الرأي في تعديلات القوانين المنظمة لها.
وحتى لا يترك أي فرصة لتمرير قرار أو موقف ضدّ إرادة السيسي، فعند أخذ التصويت على قرارات المجلس الأعلى، ولدى تساوي عدد الأصوات، يضمن النص الدستوري ترجيح كفة رئيس الجمهورية أو من يفوضه لرئاسة هذا المجلس. علماً بأنّ الأخير سيكون له أمين عام، سيعينه أيضاً رئيس الجمهورية لمدة يحددها القانون الذي من المنتظر أن يكون على رأس أعمال الدورة البرلمانية الحالية.