ملاحقة النظام السوري أمام المحاكم الأوروبية: سعي لعدالة غائبة

08 يناير 2019
تحرك في إدلب يطالب بإطلاق المعتقلين لدى النظام (Getty)
+ الخط -


تنشط في أوروبا هذه الأيام مجموعات من اللاجئين السوريين والناشطين الحقوقيين، لملاحقة نظام بشار الأسد على جرائمه بحق المعتقلين، وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية، منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011. فمن السويد مروراً بالدنمارك وألمانيا وصولاً إلى إسبانيا، بات تحرك هؤلاء ملحوظاً مع بداية 2019 لرفع قضايا جرائم حرب وضد الإنسانية أمام المحاكم الوطنية، "فإذا لم يستطع السوريون داخل بلدهم تحقيق العدالة للضحايا، فيمكن القيام بذلك في أوروبا"، كما يقول المعتقل السابق في سجون النظام، الصحافي السوري منصور العمري.
يأمل الناشطون والضحايا السوريون أن تثمر مبادرتهم لتحقيق العدالة للضحايا أمام المحاكم الأوروبية "بتعويض العجز الدولي عن تحقيق ملاحقة قضائية لنظام بشار الأسد وأي نوع من العدالة للشعب السوري"، كما يقول سفيان ع. لـ"العربي الجديد"، في استوكهولم، وهو الذي يعمل مع زملاء وناشطين آخرين، بمساعدة محامين ومتخصصين ومبادرات حقوقية سورية - أوروبية، وأهمها مبادرة منصور العمري، الذي تعرض للتعذيب ويدعو إلى محاكمة النظام أمام المحاكم السويدية، وياسمين مشعان في ألمانيا التي فقدت أخاها تحت التعذيب وبدأت برفع دعوى أمام المحاكم الألمانية.

شهادات موثقة بالدم
منذ أن خرج العمري من السجن ولجأ إلى السويد في 2014، وهو يشدد على ضرورة أن تأخذ السويد دورها في تحقيق العدالة لمن تعرضوا للتعذيب، ومن قضوا في السجون، ولأصدقائه الذين تركهم خلفه، بحسب ما يذكر عن مسعاه مع آخرين في دول أوروبية أخرى لتحقيق العدالة ومحاسبة الجلادين في النظام السوري.
العمري كان يتابع منذ العام 2011 أوضاع المعتقلين والتعذيب الذي يطاولهم، قبل أن يجد نفسه في 2012 ضحية للتعذيب في سجون نظام الأسد. وانتشرت قصته في السويد عام 2017، حين سرد للقناة الرسمية السويدية "اس في تي" قصته بالإثباتات والأدلة وكيف "كتب أسماء نحو 75 معتقلاً بالدم داخل بطانة قميص كان يرتديه في أحد السجون في دمشق (في مطار المزة العسكري)".

وأحدثت شهادة العمري عن التعذيب في سجون النظام ردود فعل واسعة، خصوصاً قوله "كنا نتحدث كمعتقلين، ونحن نستمع لأصوات التعذيب والصراخ، عما يمكن أن نفعله إذا ما خرج أحدنا حياً". وخطرت فكرة تدوين الأسماء بالدم داخل القميص "حيث كانت الفكرة الغالبة هي الانتقام لهؤلاء الضحايا، والبعض الآخر كان يفكر بقتل الجلادين، فيما بقي الأمل بملاحقة المسؤولين وجلبهم إلى العدالة". الفكرة الأخيرة هي التي سيطرت على العمري لأجل "ملاحقة المجرمين أمام القضاء وتحقيق العدالة".
ومنذ قدومه إلى السويد، يتابع العمري عمله في محاولة تحقيق العدالة لآلاف السوريين الذين عذبوا أو قضوا تحت التعذيب. وبعدما تطرق إلى الكثير من تفاصيل توثيق ما يجري داخل معتقلات وسجون النظام، يؤكد العمري أنه "بعكس ما جرى في جنوب أفريقيا والأرجنتين وتشيلي ورواندا من عدالة انتقالية بعدما تغيّرت الأنظمة، فإنه لا يمكن تحقيق العدالة في سورية ببقاء النظام الحالي، وبالتالي يجب أن يتم الأمر أمام محاكم أوروبا".

وفي الاتجاه نفسه، يقوم الحقوقي والمحامي السوري أنور البني، بجهود في استوكهولم، ومن خلال جولات على الدول الأوروبية، "لتنسيق ملاحقة أوروبية ضد جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد". يعتبر البني أن "الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة من نظام الأسد لا يمكن أن تتقادم أو يتساهل معها". ويتفق عدد من الناشطين السوريين، في أكثر من دولة أوروبية، مع البني في مسعاه للبدء بملاحقة قضائية لمرتكبي الجرائم في سورية.

ويمتلك سوريو المنفى "أطناناً من الوثائق والصور والأدلة التي تؤكد تورط شخصيات وأجهزة نظام الأسد في تعذيب وقتل المعتقلين وجرائم ضد الإنسانية، على الرغم من نفي نظام الأسد مرات عديدة أن يكون التعذيب منتشراً في سجونه"، بحسب ما يذكر ناشطون سوريون لـ"العربي الجديد" في السويد وألمانيا.
وعلى الرغم من أن تلك الجرائم، بما فيها الوثائق والصور التي هربها "قيصر" (الاسم المستعار لمصوّر من الشرطة العسكرية السورية، هرب من سورية في 2013 حاملاً معه 50 ألف صورة لجثث سجناء)، لم تصل إلى المحكمة الجنائية الدولية، بفعل توازنات في مجلس الأمن الدولي، وتحديداً ما يسميه الناشطون "حماية روسيا لنظام الأسد من الملاحقة الجنائية الدولية"، يعوّل هؤلاء على المحاكم الوطنية حيث تقيم جاليات سورية. ويبدو أن استوكهولم باتت محط أنظار العديدين منهم، بفعل تعديلات قانونية تسمح بالملاحقة، إلى جانب ألمانيا التي فتحت بالفعل 3 قضايا للتحقيق فيها.


تعاون وآمال بالعدالة

يبدو الجهد السوري في أوروبا هذه الأيام منسقاً لحمل المحاكم الأوروبية على البدء بتلقي الدعاوى المرفوعة من قبل اللاجئين السياسيين الناشطين لملاحقة مجرمي الحرب في بلدهم. بعض الناشطين الحقوقيين في السويد ممن تحدثوا لـ"العربي الجديد"، يخشون التصريح بأسمائهم بسبب وجود أسرهم في مناطق سيطرة النظام، فيما آخرون يختارون العمل بشكل صريح، مثل الناشط عبد الناصر خلوص، من مدينة دوما في ريف دمشق، التي عانت هجمات كيميائية. ويذكر هؤلاء لـ"العربي الجديد"، أن "المساعي السورية في أوروبا بعيدة تماماً عن أية تشكيلات معارضة، وهي في الأساس تركز على إحقاق العدالة". ويؤكد الناشط الحقوقي سفيان ع. في السياق، أن "تقديم دعاوى خلال الأشهر الماضية في فرنسا وألمانيا يأتي في سياق مسعى سيتكثف خلال 2019، وخصوصاً مع اشتداد حملة تطبيع وتعويم النظام وأجهزته القمعية وشخصيات بعينها أمرت وشاركت بالتعذيب والتخلص من الجثث".

ويذكر هؤلاء الناشطون في استوكهولم أنهم سعوا لكي يُصدر المدعون العامون في السويد "مذكرات اعتقال دولية، على غرار ما يجري في ألمانيا وإسبانيا حالياً، بحق أعضاء في الاستخبارات السورية ومسؤولي أجهزة أمنية ووزراء وسياسيين". ولا يتردد الناشطون في التعبير عن "الأمل أن يطاول ذلك أمنيين جرى جمع أدلة حول مساهمتهم في التعذيب منذ 2012 وحتى 2017، وبعضهم اليوم وصل إلى أوروبا كلاجئ سياسي".
ويقدّر أنور البني أن "نحو ألف شخص ممن ارتكبوا جرائم حرب لمصلحة بشار الأسد، وصلوا إلى أوروبا بعد موجة اللجوء في 2015". وبات التعاون بين الناشطين السوريين مع "المركز الأوروبي لحقوق الإنسان والحقوق الدستورية" (ECCHR) ومقره برلين، يسعى إلى "إصدار لوائح سوداء بأسماء من ثبت تورطه بجرائم حرب".

ويأمل السوريون في السويد أن تتعزز خطواتهم لفتح تحقيق بجرائم الحرب "على الأقل في الحالات التي جرى تقديم بلاغات بشأنها إلى الشرطة السويدية منذ 2017". يُذكر أن الشرطة السويدية تلقت خلال العامين الماضيين بلاغات بحق نحو 80 شخصاً من دول عديدة، بينها سورية، إلى جانب عراقيين وسودانيين وروانديين وإريتريين، قابلوا جلاديهم في بلادهم. وذكرت الشرطة السويدية أن أعداد الشكاوى خلال العامين الماضيين تضاعفت. وأكثر تلك البلاغات تُقدّم إلى "مجلس الهجرة"، الذي يوجد فيه 20 متخصصاً سويدياً في متابعة قضايا التعذيب وانتهاكات حقوقية وجرائم حرب. ويقوم هؤلاء بإجراء مقابلات للتأكد من دقة المعلومات والأدلة، وقام المجلس منذ 2017 بنقل 52 قضية إلى الادعاء والشرطة في السويد.

والسويد واحدة من الدول الموقّعة على "نظام روما الأساسي"، ومنذ الأول من يوليو/ تموز 2014 استحدثت قانوناً جديداً يسمح بالملاحقة القضائية والمعاقبة على أراضيها وأمام محاكمها ضد كل من تورط بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. واستحدثت تحت سلطة ومسؤولية جهازها الشرطي "مجموعة البحث" (والتي كانت تسمى سابقاً لجنة جرائم الحرب) لفحص الأدلة والإثباتات، ويمكن للقضاء السويدي أن يحكم بين 4 و18 عاماً أو مدى الحياة على من تثبت مشاركته في تلك الجرائم.
يعتبر منصور العمري أن التحركات في السويد "تنطلق أساساً من مسؤولية دولية لبدء المدعي العام السويدي التحقيق بما لدينا من أدلة ووثائق على تلك الجرائم، على الرغم من عدم وجود الجلادين على الأراضي السويدية"، آملاً أن تلحق السويد "ببقية دول أوروبا التي بدأت البحث. ففي السويد الآلاف من السوريين الذين هربوا بسبب نظام الأسد، وهؤلاء يستحقون العدالة".

وغير بعيد عن السويد، يسعى ناشطون في الدنمارك وألمانيا لتقديم وثائق وأدلة للطلب من السلطات البدء في "التحقيق في جرائم الحرب والتعذيب الممنهج الذي طاول مئات اللاجئين السياسيين الموجودين اليوم في الدنمارك وألمانيا، وسبق أن قامت كوبنهاغن بفتح تحقيق بحق مجرم حرب من رواندا بتهم ارتكاب جرائم حرب، وولاية المحاكم الدنماركية تسري أيضاً على القضايا التي يتقدم بها السوريون، على الرغم من المصاعب التي قد تواجهنا"، بحسب ما يقول سفيان.
وبعد عمل طويل على جمع الأدلة والوثائق، يُتوقع أن تتقدّم اللاجئة السورية في ألمانيا ياسمين مشعان، قريباً، بشكوى ضد نظام الأسد بعدما تعرفت على صورة أخيها عقبة بين نحو 50 ألف صورة من الصور التي سُربت للمعتقلين الذين جرت تصفيتهم في السجون السورية.

ويسعى سوريون آخرون في دول أوروبية إلى رفع قضايا أمام المحاكم الوطنية ضد نظام الأسد بسبب قتله أقرباء لهم بهجمات كيميائية في عدد من المناطق خلال السنوات الماضية.
ويأمل الناشطون والمحامون والحقوقيون، سواء السوريون منهم أو الأوروبيون، أن تكون تحركاتهم في 2019 "لفتح نافذة أمل لتحقيق بعض العدالة للضحايا السوريين وقطع الطريق على رجالات النظام السوري لتسويق أنفسهم في الاتحاد الأوروبي"، على ما يختم الناشط الحقوقي سفيان حديثه لـ"العربي الجديد".

المساهمون