فنزويلا: سباق لنيل رضا جيش نصف المليون مقاتل

29 يناير 2019
يبلغ عدد عناصر الجيش 515 ألف عسكري(فيديريكو بارّا/فرانس برس)
+ الخط -
ليست بصدفة أن تتركز حملات كل المعنيين المحليين والأجانب بالأزمة في فنزويلا، على نيل تأييد الجيش، مؤسسة نصف المليون مقاتل، شديدة النفوذ في هذا البلد النفطي الغني بثرواته والبائس في مستوى معيشه مواطنيه، ذلك أن كلمة المؤسسة العسكرية، بنفوذها وقوتها وامتيازاتها وسيطرتها على الاقتصاد، وبالدعم الذي تحظى به من روسيا والصين، ستكون وحدها الحاسمة في ترجيح كفة نيكولاس مادورو، أو خوان غوايدو (35 عاماً). حتى الآن، عرف مادورو، الرئيس غير الآتي من صفوف العسكر، على عكس ملهمه هوغو تشافيز، كيف يحافظ على دعم الجيش له، على عكس الشاب المعارض الذي يحاول إقناع كبار الجنرالات بالعفو حيناً وبالامتيازات أحياناً. والخبر السار في الموضوع يبقى أن لا مؤشرات تفيد باحتمال انقسام الجيش بين الرجلين، أي تحقق الوصفة المثالية لوقوع حرب أهلية، ذلك أن الصورة الآتية من فنزويلا حتى الآن تشير إلى أن الجيش إما يبقى مصطفاً خلف مادورو خوفاً على مصالحه وامتيازاته الكثيرة، أو يخلع خليفة تشافيز وينضم إلى المعسكر الآخر، فريق غوايدو المدعوم أوروبياً وأميركياً، والذي أراد تكريس شعار مركزي للتظاهرات التي دعا إلى تنظيمها، غداً الأربعاء ويوم السبت المقبل: إقناع الجيش بالتخلي عن مادورو، وهو ما لن يكون سهلاً عندما نعرف أن القطاعات الرئيسية من الاقتصاد الفنزويلي مثلاً ممسوكة من الجيش، وأن الوزارات الرئيسية يديرها الجيش، وأن الامتيازات المالية محجوزة باسم الجيش.

إذاً، الجيش الفنزويلي هو الوحيد القادر على قلبِ الموازين في كل الاستحقاقات الداخلية، وهو ما حصل في انقلابات 1945 و1948 و1958، ومحاولتي انقلاب 1992 و2002. مع العلم أن مادورو وغوايدو لا ينتميان للجيش، غير أن القوات العسكرية عملياً هي التي تحكم فنزويلا. ويقول العسكري المتقاعد خوسيه أنطونيو كولينا، لموقع "ميليتاري"، إنه "علينا أن ننتظر، ففي حال عدم تحرّك الصفوف الصغيرة في الجيش دعماً للمعارضة، فإن ذلك يعني ولاءها لمادورو". كما نصّ الدستور على أن "الجيش يلعب دور الحكم في النظام، ولا يخدم فئة أو نظاماً أو شخصاً".

في بداية الأزمة الحالية، حسم الجيش موقفه إلى جانب مادورو. وأعلن وزير الدفاع الفنزويلي، فلاديمير بادرينو، أن الجيش في بلاده "يقف إلى جانب الرئيس نيكولاس مادورو". ونشر بادرينو تغريدة عبر "تويتر" قال فيها: "اليأس وعدم التسامح يهاجمان سلام الأمة"، مضيفاً أنه "نحن جنود الوطن لا نقبل رئيساً يُفرض في ظلال مصالح غامضة. والجيش يدافع عن دستورنا ويضمن السيادة الوطنية". في المقابل، كشف غوايدو عن أن "المعارضة تتفاوض سرّاً مع الجيش ومسؤولين آخرين لعزل مادورو". وقال غوايدو، يوم الأحد الماضي، لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية: "نحن نجري محادثات مع المسؤولين والمدنيين والجيش. هذا موضوع حساس للغاية ويتعلق بالأمن الشخصي، لذلك إن هذه المفاوضات تجري في الخفاء وعلى نحو سري كامل".

للجيش أهمية كبرى في فنزويلا، إذ تمّ تأسيسه على يد "محرّر أميركا الجنوبية"، سيمون بوليفار، وخاض حرباً ضارية مع القوات الإسبانية بين عامي 1810 و1823، أدت إلى استقلال فنزويلا، الذي قاد بدوره إلى تفكّك القبضتين الإسبانية والبرتغالية عن أميركا الجنوبية. تحوّل الجيش الفنزويلي بعدها إلى "حامٍ للسلطة"، أو إلى حكم بين أطرافها، معتمداً على دول عدة في تحديثه وتطويره، ومن ضمنها الولايات المتحدة بعد عام 1945 حين برز التأثير الأميركي على الجيش الفنزويلي، وذلك حتى عام 1970، إذ ظلت الولايات المتحدة تزود كاراكاس بالمعدات العسكرية الأرضية.

وفي عام 1999، بعد فوز تشافيز اليساري بالرئاسة، انتقلت عملية التطوير والتموين من الولايات المتحدة إلى روسيا التي باتت المموّل الرئيسي لفنزويلا بالأسلحة الثقيلة والمركبات المدرعة والطائرات المقاتلة، كما تزودها الصين بطائرات التدريب والمركبات الخفيفة ورادارات المراقبة. ومنذ عام 2000 أصبح بإمكان النساء الالتحاق بالجيش في فنزويلا. وتعتبر الخدمة العسكرية إلزامية لكل الفنزويليين في سن الـ18. وأضحى عديد الجيش 515 ألف مقاتل، كأحد أقوى الجيوش الأميركية الجنوبية. ووفقاً لصحيفة "نيوزويك" الأميركية، فإن 130 ألف جندي فنزويلي هم في الخطوط الأمامية. لدى فنزويلا 696 دبابة و700 عربة مسلّحة. وللبلاد 50 قطعة بحرية، و3 فرقاطات و4 طرادات وغواصتين، لكنها لا تملك حاملات طائرات أو مدمّرات. يضم سلاح الجو الفنزويلي 280 طائرة، بما في ذلك 42 طائرة مقاتلة.

وعلى الرغم من تردّي الوضع الاقتصادي في فنزويلا، والمحاولة الانقلابية ضد تشافيز في عام 2002، إلا أن العسكر ظلّ موالياً للسلطة. مع العلم أن البعض راهن على تخلّي الجيش عن مادورو، لكن الأخير بقي محتفظاً بالدعم العسكري، لاعتبارات تبدأ من المصالح العسكرية لقادة الجيش، الذين ستنتهي أدوارهم في أي سلطة جديدة، خصوصاً بعد إعلانهم مرات عدة رفضهم لأعمال الشغب، التي رافقت التظاهرات الاحتجاجية في السنوات الماضية، فضلاً عن حمايتهم الانتخابات الرئاسية التي رسّخت سلطة مادورو. ومن الطبيعي أن العناصر الذين أتى بهم تشافيز بعد عام 1999، أضحوا ضباطاً وعسكريين برتبٍ عالية، وأي تغيير حالياً، سيعني تغييراً في التموين العسكري من روسيا إلى الولايات المتحدة، وبالتالي إحالة هؤلاء الضباط إلى التقاعد، وربما إلى محاكمات بقضايا متعلقة بمقتل متظاهرين.


هؤلاء يريدون ضمانات، وربما قد يكون غوايدو قد لمّح إلى ذلك، حين توجّه إليهم بالقول: "قفوا بجانب الشعب، ستواجهون اختباراً هاماً خلال الأيام القليلة المقبلة". وطالب الجيش بأن "يبرئ ضميره ويلبي مطالب الجياع والمرضى الذين لا يملكون دواء"، متوجهاً بسؤال للجيش: "هل ستسمحون بدخول الطعام والدواء للمحتاجين؟". وتعهّد بمنح العفو لهم، خصوصاً أن العديد من الضباط متورطون بقضايا إجرامية كثيرة، كتجارة المخدرات وغسيل الأموال، والأنشطة الإجرامية، ما يعني عدم إحجامهم عن دعم التغيير الذي يدعو إليه غوايدو. لغوايدو وجهة نظر منطقية، بعيداً عن كونه مدعوماً من الولايات المتحدة، فالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في فنزويلا تزداد سوءاً، و3 ملايين لاجئ وصلوا إلى دول الجوار، كالبرازيل وكولومبيا والبيرو والإكوادرو. بعضهم غير آبه بالنعوت العنصرية التي تُطلق عليه. فالحياة في كاراكاس أشبه برحلة إلى الجحيم.


ومع إعلان الملحق العسكري الفنزويلي في واشنطن الكولونيل خوسيه لويس سيلفا، ولاءه لغوايدو، ارتفع منسوب الحديث عن احتمال تشكيل حكومة ظلّ، تضمّ ريكاردو هاوزمان، الذي كان وزيراً للتخطيط بين عامي 1992 و1993، ويعمل في جامعة هارفارد الأميركية، حتى أنه أكد وجود خطة اقتصادية ـ نفطية لديه لفنزويلا. كما تمّ تعيين ألفريدو فيتشيو كـ"قائم بأعمال" فنزويلا في الولايات المتحدة، وهو أحد أعضاء حزب "الإرادة الشعبية" التابعة لغوايدو. ورأى رئيس معهد للإحصاء في كاراكاس، لويز فيسنتي ليون، أن "غوايدو لن يستطيع، بهذه التعيينات، الحكم من الخارج، إلا في حال أراد إدارة الدعم الدولي له".

لكن الغنيمة التي يحظى بها الجيش في حكومة مادورو كبيرة، فوزير مكتب رئاسة الجمهورية، خورخي ماركيز، هو عقيد متقاعد، ووزير الداخلية والعدل، هو الجنرال المتقاعد نيستور ريفيرول، ووزير الدفاع هو الجنرال فلاديمير بادرينو، ووزير الزراعة والأراضي هو العقيد المتقاعد ويلمار كاسترو سوتيلدو، ووزير النفط والغاز هو الجنرال المتقاعد لويس ألبرتو ميدينا، ووزير الكهرباء هو الجنرال لويس موتا. ولوحظ تمسك الجيش بأدق الملفات، من مكتب الرئاسة، لقضايا العدل والأمن الداخلي، والأراضي والعقارات، والنفط والغاز والكهرباء. بدورها، أشارت رئيسة منظمة "كونترول سيودادانو" لدراسة الشؤون العسكرية، روثيو سان ميغيل، إلى أن "الجنود ينعمون بالسلطة، ولكن عائلاتهم تعاني من تبعات الأزمة ومن نقص الغذاء والدواء وانعدام الأمن على غرار باقي العائلات". ووفقاً لها، فإن "أكثر من أربعة آلاف عضو من الدرك الوطني الفنزويلي انسحبوا من الخدمة العسكرية سنة 2018، بعدما أنهكتهم ظروف حياتهم المعيشية السيئة".

الجيش يدرك ذلك، لكن مادورو قادر على توجيه الأنظار إلى عدو خارج الحدود، بالاستناد أيضاً إلى تسريبات من هذا العدو. بالنسبة إلى كاراكاس، فإن واشنطن تهدد باجتياح البلاد. أصلاً الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لمّح إلى ذلك بصورة غير مباشرة، فقد نقل موقع "أكسيوس"، عن عضو مجلس الشيوخ الأميركي الجمهوري، ليندزي غراهام، أن "ترامب يفكر في خيار عسكري لحل الوضع في فنزويلا". وكشف غراهام عن حوار جرى بينه وبين ترامب: "سألني ترامب: ما رأيك في استخدام القوة في فنزويلا؟ قلت: عليك أن تكون حذراً، هذا يمكن أن يكون مشكلة. أجاب: طيب أنا مندهش، فأنت تريد أن تغزو في كل مكان". وعلّق غراهام، في هذا السياق، قائلاً إن "ترامب معبأ بشكل عدواني تجاه فنزويلا".

في المقابل، باشر الجيش الفنزويلي اختباراً واسع النطاق للمعدات العسكرية، قبل أن يتم الإعلان عن تمارين واسعة النطاق في الفترة من 10 إلى 15 فبراير/ شباط المقبل. ونشر الرئيس الفنزويلي في حسابه على "تويتر" فيديو الاختبارات. كما سبق أن ذكرت وسائل الإعلام المحلية أن "السلطات الفنزويلية ترسل قوات إلى الحدود مع كولومبيا، خوفاً من غزو القوات الأميركية لفنزويلا انطلاقاً من كولومبيا". الدخول من كولومبيا أسهل للقوات الأميركية، في حال قررت غزو فنزويلا، لقرب المدن الفنزويلية الرئيسية من كولومبيا، كماراكايبو وباركويسيميتو وفالنسيا والعاصمة كاراكاس. كما أن الأميركيين لن يكونوا وحدهم، على اعتبار أن المعارضين الفنزويليين، فضلاً عن احتمال انضمام العناصر الصغيرة في الجيش إلى المعارضة، كما حصل في مرات سابقة في الفترة الأخيرة، سيُشكّلون رافعة لأي محطة عسكرية.

الأكيد حالياً أن كل شيء يتوقف على مادورو، في حال أعلن قبوله للمبادرة الأوروبية، التي تنصّ على إعلان إجراء انتخابات جديدة، قبل يوم الأحد المقبل. وعلى الرغم من رفضه للمبادرة حالياً، إلا أنه لن يكون في وسعه المناورة كثيراً، لكن التغلغل العسكري في النظام أكبر من قدرة مادورو على اتخاذ قرارٍ بمفرده. ففي حال اصطفاف الولايات المتحدة وغالبية دول القارة الأميركية الجنوبية والاتحاد الأوروبي ضده، في مقابل عدم قدرة عملانية فعلية للتحرك العسكري الروسي أو الكوبي لدعمه، فإنه سيسقط سريعاً. أما الجيش، الذي وقف مع تشافيز، فقد يتلقّف مبادرة غوايدو في اللحظة الأخيرة، والخضوع للمرحلة الانتقالية، موعوداً بالعفو عن كبار ضباطه وعناصره. 
المساهمون