فضيحة مرسوم التجنيس في لبنان: بلد بخدمة النظام السوري

03 يونيو 2018
مُرّر المرسوم قبل الانتخابات (جوزيف عيد/فرانس برس)
+ الخط -
يحمل مرسوم التجنيس الأخير في لبنان في مضمونه وشكل إخراجه للعلن ما يكفي لجعله يرتقي إلى فضيحة مكتملة الأركان، إن لجهة السرّية التي تم إقراره فيها ومخالفته المتعمدة للإجراءات الدستورية المفترض اتباعها عند صدور أي مرسوم من هذا القبيل، أو لجهة هويات المجنسين تحديداً السوريين منهم ومدى ارتباطهم بالنظام السوري مباشرة سواء سياسياً أو اقتصادياً خصوصاً أن بعضهم مشمول بالعقوبات الأميركية، وكذلك لجهة ما عكسه المرسوم من إثبات إضافي لمدى طائفية وطبقية وعنصرية السلطة اللبنانية وتعاطيها مع قضايا التجنيس على اعتبار أن هذه السلطة التي لا يوفر مسؤولوها مناسبة  للتصويب على الوجود الفلسطيني، والسوري، وحتى العراقي (إن بدرجة أقل) في لبنان، ويتخذون من "بعبع التوطين" ذريعة لحرمان المرأة اللبنانية من حقها في منح الجنسية لزوجها وأولادها، اختاروا، عبر مرسوم التجنيس- الفضيحة الأخير، تجنيس سوريين وعراقيين وفلسطينيين لكن من أصحاب الأموال فقط. وتشكل الفضيحة انعكاساً فجاً لمدى طبقية السلطة وحصر أفضلية التجنيس بالمتمولين في ما يأتي كون غالبية المجنسين هذه المرة، وعلى عكس جميع المرات السابقة، من الديانة المسيحية، ليعكس العقلية الطائفية التي تدار بها البلاد. وصحيح أنه ليس جديداً على النظام اللبناني التعاطي مع مختلف الأمور من منظار طائفي، بل الجديد استمرارية هذا النوع من التعاطي رغم الوعود المتتالية بإصلاح البلد، سواء على خلفية انتخابات 6 مايو/أيار الماضي النيابية، أو بفعل مؤتمر "سيدر" (باريس 4) المنعقد في أبريل/نيسان الماضي، الذي وضعت فيه الدول المانحة سلسلة إجراءات ودعوات للإصلاح، كي تُفرج عن 12 مليار دولار، قيمة الهبات والقروض الممنوحة للبنان.

في مرسوم التجنيس الأخير، الذي وقّعه رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الداخلية نهاد المشنوق (بصفته وزير الوصاية) بدا واضحاً أن "تهريب المرسوم" قبل الانتخابات النيابية، وبصورة غير معلنة، مؤشر لدى واضعيه بأن هناك خطأ ما فيه، أو لتغطيتهم خطأ ما. لا تتعلق القضية بأرقام ولا قوميات ولا طوائف محددة، بقدر ارتباط معظم المجنّسين الجدد بالنظامين السوري والإيراني، فضلاً عن وجود شخصيات عراقية.
وحصل المجنّسون على هوياتهم من دون نشر المرسوم في الجريدة الرسمية، وهو ما يعني عدم القدرة على الطعن الدستوري في المرسوم كونه غير منشور بالجريدة الرسمية، على الرغم من إعلان أحزاب وكتل نيابية نيتها تقديم طعن، ومنها من باشر، كالقوات اللبنانية واللقاء الديمقراطي والكتائب اللبنانية، في خطوة اعتبرها البعض بأنها "غير مجدية" لقوة المرسوم دستورياً. حتى أن حزب الكتائب، وعلى لسان رئيسه النائب سامي الجميل، كشف في تغريدة على "تويتر"، أن "رئاسة الجمهورية رفضت إعطاءنا نسخة عن مرسوم التجنيس مع أنّها الجهة التي أصدرته. وأحالتنا إلى وزارة الداخلية أي الجهة المنفّذة. سنتوجّه (غداً) الاثنين بطلبنا إلى الداخلية".

وإذا كان الطاعنون من جهة سياسية واحدة، أي من فريق 14 آذار، فإن فريق 8 آذار لاذ بالصمت، رغم "انتفاضة" بعض قواعده، ومنهم قواعد التيار الوطني الحرّ، التي صُدمت أولاً بخطوة التجنيس، قبل القبول به على قاعدة "الثقة برئيس الجمهورية".
السبب في صمت فريق 8 آذار يصبح سهل التفسير بعد التدقيق في الأسماء التي شملها مرسوم التجنيس، إذ تبين أن تتضمن التجنيس أسماء شخصيات مقرّبة من النظام السوري، ومنهم مدير إذاعة "شام أف أم" في دمشق، الداعمة للنظام السوري سامر يوسف، ومفيد غازي كرامي الذي يوصف بأنه أحد مموّلي النظام السوري في السويداء، وسعيد القادر صبرا رئيس اتحاد غرفة الملاحة البحرية في اللاذقية وصديق رئيس النظام السوري بشار الأسد، و3 من أفراد عائلة نائب رئيس غرفة التجارة والصناعة في اللاذقية  الراحل فاروق جود، المقرّب من النظام السوري وعائلة الوزير السوري السابق للتعليم العالي (2003 ـ 2006) هاني مرتضى، وسامر فوز الذي أخذ مكان رامي مخلوف عقب تعرضه للعقوبات الاقتصادية التي دفعته إلى العمل في الظل. وفوز هو الذراع الاقتصادي لبشار الأسد وشقيقه ماهر ويدير شبكة واسعة من الأعمال لخدمة النظام السوري وأعوانه.



تفصيلياً، فإن سامر يوسف عُرف بتغطيته لمباحثات جنيف بين النظام السورية والمعارضة، وكان من أشدّ العاملين على التسريبات الصحافية. أما مفيد غازي كرامي، فعمل وما زال على تمويل مشروع "خبز للجميع" التابع لمطرانية الروم الأرثوذوكس في السويداء والبعض تحدث عن علاقة تربطه بوئام وهّاب، من دون التأكد من مدى صحتها. أما سعيد القادر صبرا، فعمل على التنسيق مع الروس في شأن العلاقات التجارية بين البلدين ويملك وكالة "صبرا" البحرية، وهو رئيس مجلس رجال الأعمال السوري - التركي، وأول رئيس لغرفة الملاحة البحرية في سورية. كان صبرا أحد أبرز المساهمين في شركة "شام القابضة" التي يملكها رامي مخلوف، ابن خال رئيس النظام السوري بشار الأسد، وانسحب منها عقب العقوبات الأميركية التي فرضت على الشركة.

شملت قائمة التجنيس اللبنانية أسماء ثلاثة من أبناء رجل الأعمال السوري فاروق جود، وهم محمد ورشاد وهادي. تملك عائلة جود "مجموعة جود"، التي تأسست عام 1933، وينحدر عنها سلسلة من الشركات. شغل فاروق جود منصب نائب رئيس "غرفة تجارة وصناعة اللاذقية"، وتملك العائلة وكالات لأشهر وأغلى الماركات العالمية، من بينها "فيستل" و"بيبسي" وغيرها، فضلاً عن مساهمتها في عدد من المصارف والشركات.

وبحسب موقع "درج" فإن سامر فوز يملك مجموعة "أمان القابضة" التي تتفرع عنها سلسلة من الشركات من بينها "إعمار موتورز"، التي حصلت على وكالة حصرية مع شركة "هيونداي كوميرشال" الكورية في سورية. كما صادقت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة النظام السوري، في أغسطس/آب الماضي، على تأسيس شركة "م.ي.ن.ا" للسكر، وهي تابعة لفوز، برأسمال 25 مليار ليرة سورية. يُتهم فوز بأنه الذراع الاقتصادية لإيران في سورية، ليكون واجهة لها في شراء عقارات وتأسيس شركات تابعة لها من خلاله، ويملك استثمارات كبيرة في سورية. أما في لبنان فيملك فوز 3 شركات، الأحدث بينها شركة "سوليد 1 ش.م.ل أوفشور"، وفي الشركات الثلاث يرد اسم شقيقه عامر فوز شريكاً. يصفه خبير اقتصادي سوري، بأنه "قد يكون الأبرز في المرحلة الحالية من بين رجال الأعمال السوريين المقربين من النظام، والذين يؤمنون له خطوط إمداد، في ظل التضييق الدولي". ويبدي هذا الخبير استغرابه أن "اسم فوز لم يرد على لوائح العقوبات الغربية". وأول مرة ظهر فيها اسم سامر فوز، كان على وسائل الإعلام التركية عام 2013، عندما تم اعتقاله بسبب جريمة قتل مواطن مصري يحمل الجنسية الأوكرانية. وذكرت صحيفة "ملييت" التركية حينها، أن فوز اعترف بجريمته، مبرراً الأمر بأن الضحية نصب عليه بمبلغ 15 مليون دولار. كان مفاجئاً أن فوز خرج بعد أشهر قليلة من السجن، ما أثار علامات استفهام بشأن تدخلاتٍ كبيرةٍ لإطلاق سراحه بحسب ما قالت الصحافة التركية حينها.



وعدا السوريين، فإن اللائحة تضمنت أسماء شخصيات عراقية وأردنية وفلسطينية ومن جنسيات قيد الدرس، أكثريتهم من المسيحيين، وهو ما يحاول التيار الوطني الحرّ توظيفه للتسويق للمرسوم والتغطية على فضيحة المرسوم بحدّ ذاته، عبر استغلال الأمر طائفياً من منطلق أن أكثرية المجنسين من المسيحيين، وذلك رداً على مراسيم تجنيس عدة صدرت في سنوات سابقة، خصوصاً بعد عهد الطائف (1990). ففي عام 1994، شكّل قانون الياس الهراوي ـ رفيق الحريري ـ بشارة مرهج، عنواناً لفضيحة تجنيس واسعة النطاق، تمّ خلالها تجنيس نحو 180 ألف شخص، غالبيتهم الساحقة من الفلسطينيين والسوريين. بعدها، أُلحق المرسوم بمرسوم "تصحيحي" اعتُبر بأنه يعيد بعضاً من التوازن للمسيحيين، وكان عرّابوه الهراوي ـ الحريري ـ ميشال المرّ. معظم هؤلاء تمّ تجنيسهم في أماكن نفوذ الثلاثي المذكور، سواء في زحلة (الهراوي) أو المتن (المرّ) أو بيروت (الحريري). لاحقاً مرّر الرئيسان إميل لحود وميشال سليمان مرسومي تجنيس اقتصرا على بضع مئات من الأشخاص، وفق ما أسموه "تصحيح أوضاع أو لما قدموه من خدمات للبنان".

ولا يمكن فصل استخدام صلاحيات محددة لرئاسة الجمهورية في ملف التجنيس، دون إطلاع الشعب، بعيداً عن سياق التضييق على حرية الوصول للمعلومات. علماً أن بروز فضيحة التجنيس تلا قراراً للحكومة اللبنانية بحجب الجريدة الرسمية مجاناً عن المواقع الإلكترونية، وفرض مبلغ سنوي قيمته 550 ألف ليرة لبنانية (366 دولاراً) للحصول عليها. كما أن الرؤساء عادة يستخدمون صلاحية توقيعهم على مرسوم التجنيس وفقاً لحسابات خاصة، طائفية ومذهبية وسياسية، لا وفقاً لحق الأجانب الساكنين في لبنان الحصول عليها. فالهراوي والحريري والمرّ ومرهج اعتبروا أن المجنّسين سيخدمونهم انتخابياً. أما لحود وسليمان وعون فكان توقيعهم أقرب إلى ضمان تشكيل دائرة اقتصادية ـ سياسية قوية إلى جانبهم.

يضاف إلى ذلك أن عون ارتأى، هذه المرة، منح الجنسية للمقتدرين مالياً والمقربين من النظام السوري الهاربين من العقوبات الأميركية، ما قد يستجرّ عقوبات على لبنان، في حال قرّر المجتمع الدولي ملاحقة الخيوط الاقتصادية للنظام السوري. كما أن منح الجنسية بهذه الطريقة واللعب على وتر أن أكثرية المجنسين من المسيحيين يأتي في سياق السياسة التمييزية والطائفية الاعتيادية للتيار الوطني الحرّ، والتي عبّر عنها وزير الخارجية، صهر الرئيس ميشال عون، جبران باسيل في مشروع قانون قدّمه في 21 مارس/آذار الماضي، نصّ على "يعد لبنانياً كل شخص مولود من أب لبناني أو أم لبنانية، كل شخص مولود في أراضي لبنان الكبير قبل 19/1/1925 ولم يثبت أنه اكتسب بالبنوة عند الولادة تابعية أجنبية، كل شخص يولد في لبنان من والدين مجهولين أو مجهولي التابعية ويثبت قضاء هوية أحد والديه ونسبه وتابعيته اللبنانية، باستثناء دول الجوار (أي فلسطين وسورية)". مع العلم أن بين اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين أكبر نسبة قرابة بين 3 دول في العالم، نسبة إلى عدد السكان.

لكن مع ذلك فإن عشرات الآلاف من النساء اللبنانيات، المتزوجات من أجانب، لا يمكنهن منح جنسيتهن لأولادهن، على الرغم من أن هذا الأمر يعد من أبسط الحقوق الإنسانية، إمعاناً في  السياسة التمييزية التي تنتهجها السلطة اللبنانية بذريعة التوطين تحديداً في ما يتعلق بالوجود الفلسطيني في لبنان. وتم اعتماد هذه الذريعة على مدى سنوات لحرمان الفلسطينيين من الحصول على الجنسية أو العمل في مهن عدة، والتضييق عليهم قبل أن تؤدي الأزمة السورية ووجود مئات آلاف اللاجئين السوريين في لبنان إلى إشهار هذه الذريعة مجدداً وتوظيفها سياسياً.