ميركل بعد قرار التقاعد الأنيق: الارتدادات على ألمانيا وأوروبا

01 نوفمبر 2018
قرار ميركل مهد الطريق لتجديد الحزب (شون غالوب/Getty)
+ الخط -

بعدما أدركت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، أنها لن تهنأ خلال ولايتها الرابعة على رأس المستشارية باستقرار في الحكم مع تزايد المعارضين لسياستها، اختارت وعلى طريقتها فن التقاعد الأنيق  من زعامة حزبها، اعتباراً من ديسمبر/كانون الأول المقبل، بعد النتائج المخيبة لحزبها المسيحي الديمقراطي في الانتخابات البرلمانية في ولاية هيسن الأحد الماضي، إذ تراجع الحزب أكثر من 10 نقاط عن العام 2013 ما دفعها لوصف النتيجة بالمريرة والمخيبة للآمال. ناهيك عن أنه وبعد انتخابات هيسن أصبح الحزب اليميني الشعبوي "اليمين من أجل ألمانيا" حاضراً في جميع برلمانات الولايات الألمانية والأمر يتطلب الحد من الخسائر. وينظر إلى قرار ميركل وخيارها الحتمي بعدم الترشح مجدداً لزعامة حزبها على أنها مهدت الطريق لتجديد الحزب، وإن كان ذلك نتيجة الضغط الذي ازداد عليها خلال الأشهر الماضية، إذ بات واضحاً لديها أنه لم يعد بإمكانها الاتكال على ولاء مناصري حزبها ومندوبيه، بعدما عانت بنفسها من بعض الخضات الداخلية وتحملها للمناكفات داخل الائتلاف الحكومي في برلين.

في المقابل، يرى متابعون أن خطة ميركل بالانسحاب على مراحل لا تخلو من المخاطر، لأنها ستصبح مقيدة نسبياً وأضعف بوجود زعيم جديد للحزب، بينما تعتبر وجهات نظر أخرى أن المستشارة ستتفرغ أكثر لإعادة تصويب الأمور داخل الائتلاف الحاكم، وربما مبارزة زعيم "الحزب الاجتماعي المسيحي"، الشريك الأصغر لحزب ميركل، هورست زيهوفر، وإحراجه لإخراجه. وبين هذا وذاك، هناك من يجد أن ميركل ستبقى معرضة للاستهداف خلال السنوات الثلاث المقبلة كمستشارة، على الرغم من العمالة شبه الكاملة في البلاد وتراجع المخاطر الأمنية الداخلية، في وقت تعاني دول الاتحاد الأوروبي من الانقسام حول الميزانية مع إيطاليا والحريات في بولندا والهجرة والعنصرية في المجر والنجاح المتزايد للأحزاب اليمينية الشعبوية في أوروبا، وذلك بعدما بات المطلب الرئيسي، بعد الخروج المرتقب لبريطانيا، هو تحريك منطقة اليورو وليس توسعة الاتحاد، مخافة أن تتعمق الهوة بين أطرافه، لأن ضعف التمويل من الدول الغنية وتزايد الدول ذات الإمكانات المتواضعة ضمن الاتحاد قد تهدد كيانه.

أما كيف يتوقع أن ينعكس قرار ميركل على حزبها، فإن خبراء في الشؤون الداخلية الألمانية يرون أنه ورغم القناعة لدى ميركل بأن زعامة الحزب وتسيير أمور المستشارية يجب أن تكون بيد شخص واحد، فقد أكدت اليوم أنها باتت مستعدة لمشاركة قوتها، بعدما وجدت أن حزبها في خطر، وهو ما يمكن اعتباره جرأة بحد ذاتها وصِفات يتحلى بها الكبار، انطلاقاً من أن للحزب الأولوية بمعزل عن الأشخاص والمناصب والأسماء. إن خيارها أعاد الأمل إلى "المسيحي الديمقراطي" الذي أظهرت الانتخابات أن عليه تعزيز سلطته إذا ما أراد أن يبقى حزباً شعبياً، خصوصاً أن ولايتي ميركل الثالثة والحالية (الرابعة) طبعتهما أزمة اللجوء بفعل ثقافة الترحيب التي أعلنتها حيال اللاجئين، والتي يبدو أنها ستحدد سياسة ألمانيا وأوروبا خلال السنوات المقبلة، لأن ضغط الهجرة من أفريقيا والمنطقة العربية لن ينحسر، بل سيزداد وهناك تخوف من التغير في هوية أوروبا مستقبلاً.


وكانت صاحبة لقب أقوى امرأة في العالم قد أعلنت صراحة أن القرار جاء نتيجة عملية تفكير طويلة بعد العطلة الصيفية، وهي التي كانت رمزاً للنجاح السياسي وأصبحت عند البعض الآخر رمزاً للفشل وفقدان السلطة. وهذا ما يطرح السؤال، هل تبقى المستشارة لنهاية الولاية الحالية في العام 2021 أم أن انفراط الائتلاف الكبير، وحيث المؤشرات توحي أنه لن يستمر طويلاً، قد يعجل في مغادرتها؟ وهو ما سيؤدي بالوضع لانهيار تاريخي للأحزاب الشعبية في ألمانيا، فيما أن قوتهم في تضاؤل بفعل المشهد الفوضوي الذي يعيشه الائتلاف الحاكم في برلين، وبعدما لم تنجح المستشارة لغاية الآن في ترويض حليفها الأصغر، زعيم الحزب الاجتماعي المسيحي ووزير الداخلية، هورست زيهوفر.

من جهة ثانية، فإن هناك تصوراً في ألمانيا، أقوى اقتصاد في أوروبا، يفيد بأن قرار ميركل سيقلق أروقة بروكسل، من أن ميزان القوى سيختل مستقبلاً بفقدان شخصية بحجمها، لأن هالتها أعطت الاتحاد ثقلاً دولياً أكبر، بعدما عرفت برفضها التنازل كيفما كان في أهم القضايا، خصوصاً التخطيط المالي ومطالبات دول شرق وجنوب أوروبا، في ظل الخلافات المحتدمة على العديد من الملفات الأوروبية، بينها النزاع حول اللاجئين والقلق على مستقبل اليورو وأهمية الإصلاحات الأوروبية وبريكست وميزانية الاتحاد الأوروبي المقبلة، إلى السياسة الاقتصادية والحرب التجارية المحتملة مع أميركا. ومنذ الآن، يبقى الترقب سيد الموقف لخطوات المعارضين لخيارات ميركل في أوروبا، بعد نشوة الانتصار التي شعروا بها، بينهم اليميني الشعبوي وزير الداخلية الإيطالي، ماتيو سالفيني، الذي قال إن رسالة الانتخابات في ولاية هيسن الألمانية أظهرت أن الأحزاب الحاكمة في بروكسل تلقت ضربة تاريخية، في إشارة إلى أنهم كانوا على حق عند انتقادهم سياسة ميركل المتعلقة باللاجئين، فضلاً عن رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، الذي باتت ميركل، بنظر أمثاله، رمزاً للانقسام الأوروبي، إلى المستشار النمساوي سيباستيان كورس المشارك مع اليمين الشعبوي في الحكم، والذي لم يتردد في توجيه سهامه إلى سياسة ألمانيا حيال اللجوء.

لكن هذا الرأي، يعارضه باحثون في العلوم السياسية من منطلق أن "الخضر" حزب صديق للهجرة ويحقق النجاحات تلو الأخرى، إنما المشكلة في التلكؤ في الإصلاحات، وبينها قانون الهجرة الجديد، وحيث المطلوب أن تكون مندرجاته الأساسية موحدة بين دول الاتحاد الأوروبي، إلى إصلاحات منطقة اليورو والحد من البطالة المتفاقمة في أوروبا مع تدهور العديد من قطاعات الإنتاج لصالح أسواق جديدة في شرق آسيا. وهنا يعتبر هؤلاء أن ميركل ربما كلفت الكثير من رأس المال السياسي لشركائها في الاتحاد الأوروبي، ما أدى إلى تراجع بعض الأحزاب المحافظة، وبعدها بدأت كرة الثلج تكبر في دوله، فيما شخصيات تخاذلت لحماية رؤوسها ومصالحها، وبقيت ألمانيا وفرنسا الوحيدتين القادرتين على المواجهة، مع تفاقم الأوضاع السياسية لحلفائهما، بينها البرتغال واليونان وإسبانيا وإيطاليا، فيما زاد التفاوت الطبقي وتراجُع العدالة الاجتماعية بين المواطنين بفعل البطالة والأزمات المالية.

ويبدو أن فرص الإصلاح في منطقة اليورو قد تضعف في حال فرملة أوروبا لقضاياها المستقبلية، بعدما ساد في ألمانيا جو يميل إلى الحذر مع استقالة ميركل من زعامة حزبها إلى تمدد الأحزاب الصغرى، وتراجع التقليدية المدافعة عن الوحدة الأوروبية والتي ستخاض حولها مناقشات حادة داخل البوندستاغ والأطر التنظيمية الحزبية، ما يضع المستشارة وائتلافها في موقف صعب. ويرى متابعون أن قضايا الاتحاد الأوروبي ستؤدي دوراً في عملية اختيار الزعيم الجديد لحزب ميركل، لكن التأثيرات الفورية على الاتحاد غير موجودة مع بقاء ميركل في رئاسة المستشارية، وهي التي شكلت السياسات الأوروبية، بعد أن حملت مصير اليورو والأزمات المالية بين يديها ودفعت ألمانيا لفرض سياسة تقشف حديدية ضمن العديد من دول الاتحاد الأوروبي.