أعلام كتالونية منتشرة في أرجاء ملعب "كامب نو" في مدينة برشلونة ليلة السبت، في مباراة فريق المدينة الأبرز لكرة القدم. لم يكن الأمر عادياً في تلك البقعة من إسبانيا، أبداً. أعلام اعتاد جمهور فريق برشلونة، المنتمي إلى إقليم كتالونيا رفعها دائماً، خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة، التي شهدت في بعض محطاتها سيطرة تامة للفريق كروياً على إسبانيا وأوروبا والعالم. لم تكن الأمور رياضية، بل ارتبط هذا الملعب تحديداً بأكثر المركّبات وجدانية في عقول أبناء الإقليم. العلَم المخطّط باللونين الأصفر والأحمر، مع نجمة بيضاء تتوسّط مثلّثاً أزرق اللون، تحوّل إلى رمز مرفوع في جنبات إقليم الـ32108 كيلومترات مربعة، في انتظار استفتاء 1 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، الذي سيقرر فيه الكتالونيون، إما البقاء ضمن المملكة الإسبانية أو الانفصال عنها والاستقلال.
لطالما كان مطلب الانفصال الكتالوني عن إسبانيا، حاضراً في العقل الجماعي لمعظم أبناء الإقليم الذي ينعم بحكم ذاتي أقرب إلى الفدرالية الموسعة. لم يتخطّ حلم الاستقلال إطار التمنيات، ولم يتحوّل إلى التنفيذ سابقاً، حتى إن الاستفتاء الرمزي عام 2015، أُريد له أن يكون "مجرد تنفيسة"، يعود بعدها الجميع للعمل تحت راية العرش الإسباني. لكن كل شيء تغيّر في الفترة الأخيرة، تحديداً يوم الأربعاء الماضي، مع صدور مرسوم تنظيم استفتاء لتقرير المصير، إثر تبنّي برلمان إقليم كتالونيا قانوناً في هذا الاتجاه. وأقرّ القانون الذي نصّ على أن "الشعب الكتالوني سيد قراره وأن سلطته فوق كل القواعد"، بغالبية 72 صوتاً وامتناع 11 عن التصويت. وانسحب نواب المعارضة الذين اعتبروا التصويت غير قانوني من القاعة، كي لا يشاركوا في التصويت، تاركين خلفهم أعلام كتالونيا وإسبانيا جنباً إلى جنب.
موقف مازا، استُتبع بموقف رئيس الحكومة الإسبانية ماريانو راخوي، الذي اعتبر أن "الدعوة إلى الاستفتاء تشكل حركة عصيان غير مقبولة على المؤسسات الديمقراطية"، معلناً أن "حكومته ستطلب من المحكمة الدستورية إلغاء قانون تنظيم الاستفتاء". وفي ظلّ تأكيد المتحدث باسم الحكومة الكتالونية، جوردي تورول، أنه "رغم كل الظروف سننظم الاستفتاء، لأن هذا عقدنا مع مواطني كتالونيا"، تبدو الأمور متجهة إلى التصعيد في الأيام المقبلة، بين الإقليم والسلطات المركزية.
تخشى مدريد فعلياً انفصال كتالونيا، لسببين: الأول متعلق بأن أي انفصال لإقليم في إسبانيا، سيُفسح المجال لانفصال أقاليم إسبانية أخرى، مثل الباسك والكناري وغاليزيا وأراغون والأندلس، وبذلك تزول إسبانيا التي نعرفها اليوم، والموجودة بحالتها هذه منذ قرون طويلة. السبب الثاني متعلق بالاقتصاد، فكتالونيا هي الرافد الأول للخزينة الإسبانية، خصوصاً بمواردها السياحية، وانفصالها سيجعل إسبانيا أقرب إلى النموذج اليوناني المفلس ربما، مع ما يعنيه ذلك من موازنات تعتمد سياسة التقشف الحادّ. وإذا قُيّض لمدريد الاختيار، فإنها مستعدة لخوض حربٍ مع كتالونيا لمنعها من الانفصال على أن تسمح لها بذلك، ذلك أن كلفة أي حربٍ تبقى أفضل من كلفة السماح بالانفصال.
بالنسبة للكتالونيين، فإن الانفصال يحقق أحلاماً قديمة لهم، تبدأ من الاستقلالية المالية، وتحقيق الثأر القديم من الجنرال فرانشيسكو فرانكو وخلفائه، وتنتهي بالخروج من استفراد مدريد بسياسات الهجرة واللجوء والتجارة. ويُمكن إدراج حادثة الدهس في شارع "لا رامبلا"، الأشهر في برشلونة، وحوادث مترافقة في كامبريلس وألسانار وسوبيراتس، يومي 17 و18 أغسطس/آب الماضي، في سياق "تحفيز" المطالب الانفصالية. الأحداث التي سقط فيها نحو 16 قتيلاً وأكثر من 152 جريحاً، جعلت كتالونيا مستعدة، أكثر من أي وقتٍ مضى، لدفع الأثمان المتوجبة عليها، للانفصال.
"استقلال كتالونيا"، كان هدفاً أساسياً للشعب الكتالوني عبر التاريخ، خصوصاً في السنوات 988، و1641 ـ 1652، و1712، و1793، و1810 ـ 1812، و1873، و1931، و1934. في تلك المراحل وبعدها، تمّ "انتخاب" أو "تعيين" 130 رئيساً للإقليم. منهم من عيّنته فرنسا أو إسبانيا أو بريطانيا، ومنهم من انتُخب تحت ستار "التعاون" مع الإسبان أو الفرنسيين، وقلّة اختاروا التمرّد الاستقلالي، الذي دام في بعض الأحيان 3 أيام فقط.
لفرنسا، عبر جبال البيرينيه، حدود طويلة مع كتالونيا، وحاولت، أكثر من مرة، التدخّل في السنوات الأخيرة، عبر إعلانها "تسهيل" وضع الإقليم في حال الانفصال، خصوصاً في الشقين الاقتصادي والرياضي، مع أن فرنسا أيضاً لديها حساسيات انفصالية تخشاها باريس، وتخاف من عدوى الاستقلال الكتالوني. وبطرحها "نموذج موناكو" على كتالونيا، اعتبرت فرنسا أنه يُمكن لها التعاون مع باريس، كما يُمكن للأندية الرياضية الكتالونية، خصوصاً برشلونة، اللعب في الدرجة الأولى في الدوري الفرنسي لكرة القدم. في الواقع، إن انفصال كتالونيا، إن حصل، قد ينتج كرة ثلج تتدحرج بسرعة في مدريد، لذلك من غير المستبعد أن تقوم المملكة الإسبانية بكل شيء لمنع الانفصال، ولو اقتضى ذلك... إعلان الحرب.