دروس معركة عرسال و"التبادل": "حزب الله" يُقرر والدولة تتبع

06 اغسطس 2017
انتشار عناصر حزب الله بجرود عرسال، نهاية يوليو(رتيب الصفدي/الأناضول)
+ الخط -
فرض "حزب الله" اللبناني، من خلال معركة جرود عرسال، إيقاعه الخاص على الواقع الأمني والعسكري للحدود الشرقية مع سورية، واستكمل مشروعه بفرض الإجراءات العسكرية التي تصب في خدمة هذا التقييم. فمنذ صدر القرار من قيادة حزب الله بحتمية خوض الحزب معركة جرود عرسال للقضاء على مقاتلي "جبهة النصرة" هناك، انطلقت معركة تهميش قرار الدولة اللبنانية. فما أن أعلن رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، أمام البرلمان، الشهر الماضي، أن المعركة "سيخوضها الجيش اللبناني وحده"، أطلق الحزب المعركة ليكتفي الجيش اللبناني بالمواقع الخلفية، وبالانتشار حول مخيمات اللاجئين السوريين داخل عرسال وفي جرودها، فقط لمنع دخول مقاتلين هاربين من الجبهات إلى هذه المخيمات. وقد فرض حزب الله روايته للأحداث بشكل فاضح، تحولت معه وسائل الإعلام إلى مجرد ببغاء تكرر ما يرد على حسابات "الإعلام الحربي" التابع للحزب الذي استحال مصدراً وحيداً للخبر. برر الحزب ضخامة المعركة بأن عدد مقاتلي "النصرة" و"أهل الشام" يتجاوز الألف، فتتبنى وسائل الإعلام العدد ليظهر بعدها أن العدد كان 120 مقاتلاً فقط، على حد اعتراف المدير العام للأمن العام عباس إبراهيم. يعمم حزب الله تطورات المعركة فتصبح خبراً رسمياً، كذلك الحال بما يتعلق بعدد قتلى الحزب والطرف الآخر. في المحصلة، تحول لبنان، خلال المعركة وبعدها، إلى مكان يُخوَّن فيه كل من يرفض أن يقوم حزب الله بمهام الجيش اللبناني، ويصبح عميلاً كل من ينتقد تبادل الأسرى، حتى وإن أفرج عن أشخاص متهمين بقتل جنود ومواطنين لبنانيين، من أجل الإفراج عن مقاتلين أسرى لحزب الله في قبضة التنظيمات المسلحة المنسحبة إلى إدلب. في المحصلة، صار انتشار أعلام حزب الله في مناطق لبنانية لا وجود لنفوذ الحزب فيها، أمراً عادياً، وصار خروج أصوات معارضة لما حصل، أمراً استثنائياً يدنو من مستوى المجازفة.

ونجح حزب الله في تحقيق تقدم ميداني وفي الإفراج عن عدد من مقاتليه الأسرى بعدما تحوّلت الدولة اللبنانية بأكملها إلى جهاز خدمات يُقدم لحزب الله كل التسهيلات في حربه في سورية، إعلامياً وسياسياً وعسكرياً. انتهى مشهد الاستقبال الشعبي لعناصر "حزب الله" المُفرج عنهم في إطار صفقة التبادل التي نفذها الحزب مع "جبهة النصرة" برعاية مسؤول المفاوضات مع المجموعات السورية في الدولة اللبنانية، المدير العام لجهاز الأمن العام اللبناني (أحد الأجهزة الأمنية القوية في لبنان)، اللواء عباس إبراهيم. عاد الأسرى الخمسة إلى بلداتهم، ومن غير المستبعد أن يعودوا قريباً إلى مواقعهم العسكرية في سورية أو العراق أو حتى في اليمن.

مفهوم الأمن الاستباقي الذي يُقدمه الحزب كمُبرر لتورطه في كل الحروب الدائرة في الشرق الأوسط، أوصل عناصره إلى تلك البلدان. وهو ما قابله تحول تدريجي في الموقف الرسمي اللبناني من الاعتراض الخجول على قتال الحزب في هذه الدول واتهامه من قبل دول أخرى، مثل الكويت، بتشكيل خلايا أمنية فيها، إلى مرحلة تقديم التسهيلات اللوجستية والأمنية والعسكرية ليستكمل "حزب الله" ما بدأه قبل أعوام.

في لبنان، وتحديداً في المنطقة الحدودية المتداخلة التي تفصل لبنان عن سورية، حدد الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، جُملة أهداف عسكرية، أهمها إنهاء الوجود العسكري لتنظيمي "داعش" و"جبهة النصرة" (فتح الشام)، ووقف تدفق الانتحاريين والسيارات المُفخخة عبر المعابر غير الشرعية إلى لبنان. وقبل أن تتحول السلطات اللبنانية إلى "مركز خدمات" لتحسين الشروط الميدانية والتفاوضية لـ"حزب الله"، عبر فصل قتال الحزب في الأراضي اللبنانية عن مسار قتاله في الأراضي السورية، أدى تساهل السلطات السياسية والأمنية والعسكرية في ضبط الحدود إلى تعزيز مشروعية عمليات "حزب الله" هناك. واقتصرت التصريحات السياسية للمسؤولين في حكومتي الرئيس نجيب مقاتي، وبعده الرئيس تمام سلام، على تبادل الاتهامات بالطائفية عند معالجة ملف البلدات الحدودية التي يُقيم فيها مسلمون سنة وشيعة ومسيحيون.


انصب التركيز يومها على وصف بلدة عرسال باعتبارها "بؤرة إرهابية خطيرة" عبر ماكينة إعلامية موجهة، مع إصرار على عدم الفصل بين البلدة التي يقيم فيها 140 ألف مدني لبناني وسوري، وبين جرودها التي ينتشر فيها المتطرفون وتفصل بينهم مسافة تصل إلى 20 كيلومتراً. تذرّع "حزب الله" وحلفاؤه يومها بعدم وجود قرار سياسي يسمح للجيش بالتحرك ميدانياً للقضاء على التنظيمين ضمن الحدود اللبنانية، واتهموا "تيار المستقبل" بحماية المتطرفين لأسباب مذهبية. لكن الصورة لم تتبدل بعدما حصل الجيش اللبناني على تفويض أول في عهد الرئيس سلام، وتفويض ثان في عهد حكومة الرئيس سعد الحريري الثانية، بشن حملة عسكرية لـ"تحرير الجرود اللبنانية وتحرير العسكريين المخطوفين". في المرتين، كانت الغلبة الميدانية لـ"حزب الله" الذي شن هجوماً عام 2015، وفي المعركة الأخيرة في جرود عرسال من الجهتين اللبنانية والسورية، مُتقدماً على مواقع الجيش اللبناني على طول الحدود. وساعد اللواء عباس إبراهيم الحزب على تحقيق ما لم يتحقق بالقتال مع "النصرة" عبر المفاوضات، فتم إطلاق أسرى الحزب الخمسة في وقت تتعثر فيها مفاوضات كشف مصير تسعة عسكريين يختطفهم "داعش" منذ ثلاث سنوات. وذلك في تكرار لمشهد إفراج الحزب عن أسير له عام 2014، بالتزامن مع إعدام "النصرة" و"داعش" لأربعة عسكريين من المخطوفين نتيجة عدم اتفاق أعضاء الحكومة اللبنانية على مبدأ التفاوض لإطلاق العسكريين. في النتيجة، قدّمت القوى السياسية المشاركة في الحكومة غطاءً رسمياً للحزب، عبر البيان الوزاري وعبر مشاركته فيها.

بعد معركته الأخيرة وانتهاء المفاوضات بمغادرة مسلحي "النصرة" وأسرهم وحوالي 10 آلاف لاجئ إلى إدلب السورية، فرّغ "حزب الله" الكثير من مضامين التقدم الميداني الذي حققه على الحدود، بعد تسجيل تفاوت كبير بلغ عشرة أضعاف بين عدد مسلحي "النصرة" الذين أعلن الحزب عن وجودهم في جرود عرسال خلال المعركة، وبين العدد الذي أعلنه اللواء عباس إبراهيم.

فقد روّجت وسائل الإعلام المحسوبة على الحزب أن عدد المُسلحين كان ألف مقاتل، بينما أكد إبراهيم أنهم 120 فقط. وبين الرقمين سجّل وزير الداخلية نهاد المشنوق، الذي تتبع المديرية العامة للأمن العام لوزارته، مداخلة قال فيها إن عدد المسلحين كان بين 500 و600. تعكس تناقضات الأرقام هذه الكثير من تفاصيل سيطرة "حزب الله"، التي تتحول بشكل تدريجي إلى سلطة مُطلقة في لبنان، مُقابل تسليم كامل من الرؤساء الثلاثة بإدارة "حزب الله" للملف اللبناني.

وإنْ كانت معركة جرود عرسال قد أكسبت الحزب المزيد من السيطرة على القرار اللبناني، إلى جانب سيطرته على المساحة التي كانت تنتشر فيها "النصرة"، فإن المآل السياسي للمعركة المرتقبة للجيش اللبناني مع "داعش" في جرود الفاكهة ورأس بعلبك والقاع لن يكون مُختلفاً، وإن كان الجيش هو من سينتشر ميدانياً على الأرض.

يشار إلى أن أهالي بلدة عرسال لاحظوا مبكراً، خطر انتشار التنظيمات المتطرفة على الحدود مع سورية، وطالبوا بتعزيز انتشار الجيش اللبناني لمنع تدفق مقاتلي التنظيمات إلى لبنان. لكن القوى السياسية تناست هذه الدعوات ووصمت كل أهل عرسال بالتطرف وبإيواء "الإرهابيين"، قبل أن يعلن وزير الداخلية نهاد المشنوق، أن عرسال "بلدة مُحتلة".

المساهمون