ماكرون في مهمة أفريقية معقّدة: سعي لاستراتيجية تضمن الأمن وتخفف الأعباء

02 يوليو 2017
من زيارة سابقة لماكرون لقوات "برخان"(كريستوف بوتيه تيسون/فرانس برس)
+ الخط -

يصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اليوم الأحد، إلى عاصمة مالي، باماكو، للمشاركة في قمة دول الساحل والصحراء التي تضم موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد، بهدف تأكيد الجهود الفرنسية في دعم قوة مشتركة من الدول الخمس لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الشاسعة وذات الحدود المتداخلة التي تشهد نشاطاً متصاعداً للحركات الجهادية المسلحة المرتبطة بتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي".

وكانت فرنسا في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند أدت دوراً أساسياً في دفع الدول الأفريقية الخمس خلال قمتها الأولى في فبراير/ شباط الماضي في باماكو إلى إطلاق مبادرة إنشاء قوة حدودية قوامها خمسة آلاف رجل. وهي المبادرة التي نشطت فرنسا من أجل أن تلقى ما يكفي من الدعم الدولي لتصل إلى مرحلة الجهوزية والاستعداد لتولي مهامها في تعقب وتصفية عناصر التنظيمات الإسلامية المتطرفة في المنطقة. ونجحت فرنسا في تلقي دعم الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي الذي وعد بضخ مبلغ 50 مليون يورو في ميزانية القوة المشتركة، كما نجحت باريس أخيراً ولو بصعوبة، في انتزاع دعم الأمم المتحدة بعد التوصل إلى تفاهم مبدئي مع الولايات المتحدة الأميركية. ووافقت الدول الـ15 الأعضاء في مجلس الأمن بالإجماع على مشروع القانون الذي أعدته فرنسا والذي يرحب بنشر مجموعة دول الساحل الخمس للقوة المشتركة لكن من دون إصدار تفويض من الأمم المتحدة يجيز لها التدخّل العسكري.
وإذا كان مبلغ الخمسين مليون يورو الذي وعد به الاتحاد الأوروبي يسمح ببدء عملية التمويل، فإن فرنسا تأمل في توسيع نطاق الدعم ليشمل ألمانيا وهولندا وبلجيكا، وكذلك "دعماً ملموساً" من الولايات المتحدة التي باتت تهدد منذ انتخاب الرئيس دونالد ترامب بتخفيض مساهمتها المالية في العمليات العسكرية الخارجية التي تجري تحت مظلة الأمم المتحدة.

والواقع أن هذا الحماس الفرنسي لإنشاء القوة الأفريقية المشتركة وتجهيزها لإنجاز مهمتها في أقرب الآجال، دافعه الأساسي هو ترتيب انسحاب مستقبلي لقوة "برخان" الفرنسية التي تحارب الجماعات المسلحة في المنطقة منذ عام 2013 والتي تضم حوالي 4 آلاف جندي وتكلف فرنسا 600 مليون يورو سنوياً. وإن كان الانسحاب ليس وارداً في المدى القريب، فإن باريس تأمل في تقليص وجود قواتها والتخفيف من الأعباء المالية التي تستنزف كاهل وزارة الدفاع الفرنسية. وهذا ما عكسته تصريحات وزير الدفاع السابق ووزير الخارجية الحالي جان إيف لودريان الذي أكد، الخميس الماضي، لصحيفة "لوموند" أن قوة "برخان" الفرنسية ستواكب القوة المشتركة المقبلة لدول الساحل في مجموعة الخمس إلى أن "يستتب الأمن مجدداً" في المنطقة. وعندما سألته الصحيفة "إلى متى؟"، أجاب لودريان، الخبير في الشأن العسكري الأفريقي: "إلى أن يتم تحقيق السلام". وهذا ما يعني بلغة أخرى أن الحضور العسكري الفرنسي في المنطقة لن ينتهي على المدى المتوسط وربما حتى على المدى البعيد، ما دامت دول المنطقة غير قادرة على محاربة الإرهاب بالحد الأدنى الذي تأمل فيه فرنسا، التي باتت تخشى نقل تنظيم "داعش" لكوادره وخبراته إلى المنطقة بعد انهيار معاقلها في الموصل العراقية والرقة السورية.

وإذا كانت القوات الفرنسية نجحت في طرد الجماعات الجهادية المرتبطة بـ"القاعدة" بعد سيطرتها على شمال مالي في 2012، فهناك مناطق واسعة لا تزال تفلت من سيطرة القوات المالية والفرنسية والأممية التي تُستهدف بانتظام من خلال هجمات دامية. وتصاعدت هذه الهجمات في العامين الأخيرين، باعتراف لودريان نفسه، بعد أن قام إياد غالي، أحد أمراء الحرب المحليين، بجمع عدة مجموعات مسلحة من العرب والطوارق تحت راية واحدة، ما ينذر بمزيد من العمليات في المستقبل القريب. كما أن البنية السكانية والعرقية المعقّدة في المنطقة، تمخّضت عن تحالفات بين الجماعات الإرهابية وعصابات التهريب التي تنشط في تجارة المحروقات والمخدرات والاتجار بالبشر. ما دفع لودريان إلى تشخيص أكثر واقعية لما يحدث في الميدان والإقرار بأن "الإرهاب العسكري للاستيلاء على الأراضي الذي احتل القسم الشمالي من مالي ويهدد قسمها الجنوبي أصبح إرهاباً انتهازياً".


والواقع أن الأمن في منطقة الساحل ملف صعب يؤرق الرئاسة الفرنسية منذ انتخاب هولاند عام 2012. وبعد أيام قليلة من وصوله إلى قصر الإليزيه، اضطر هولاند مكرهاً إلى نجدة مالي التي اجتاحت شمالها التنظيمات الجهادية المرتبطة بـ"القاعدة" وهددت باكتساح العاصمة باماكو. واستصدرت فرنسا قراراً من مجلس الأمن الدولي يجيز استعمال القوة العسكرية في مالي لمحاربة الجهاديين وبعثت على عجل بجنود فرنسيين وطائرات مقاتلة لوقف زحف الجهاديين ابتداء من يناير/ كانون الثاني 2013 في إطار عملية "سرفال" التي تحوّلت لاحقاً بعد تطهير شمال مالي إلى "برخان".

والآن بعد فشل القوات الفرنسية والأممية والمالية في بسط سيطرة كاملة على شمال مالي ومنطقة الساحل ذات التضاريس الوعرة، ومع دخولها في حرب استنزاف مكلفة، تحوّلت فرنسا إلى استراتيجية إنشاء قوات مشتركة من جيوش المنطقة. وهي استراتيجية لا يرفضها أحد في نهاية المطاف، لكن السؤال يبقى هو ذاته ويتعلق بمشاكل مستفحلة في التمويل والتجهيز لدى دول المنطقة الفقيرة.

وما سيزيد من متاعب ماكرون في لقاءاته في باماكو اليوم، هو معالجة التهديدات التشادية بالانسحاب من القوة المشتركة ومن القوات الأفريقية التي تشارك في جبهات القتال في مالي ونيجيريا. فقد أعلن الرئيس التشادي إدريس ديبي اتنو أخيراً أن تشاد "ستضطر إلى الانسحاب" من العمليات العسكرية في أفريقيا "في حال لم تُتخذ خطوات" لمساعدة بلاده مالياً ودعمها في مواجهة أزمة اقتصادية واجتماعية خطيرة ضاعفها انخفاض أسعار البترول. وتُشكّل القوة التشادية في مالي ثالث أهم كتيبة في بعثة الأمم المتحدة ويُقدر عديدها بـ1390 رجلاً. كما يشارك ألفا جندي تشادي في القوة المتعددة الجنسيات التي تم إنشاؤها في 2015 مع النيجر ونيجيريا وتشاد والكاميرون لمحاربة جماعة "بوكو حرام" النيجيرية المتطرفة. وسيكون على ماكرون إخراج دفتر الشيكات لإقناع ديبي بالتراجع عن تهديداته، التي يرى فيها مراقبون نوعاً من الابتزاز من أجل ضمان الدعم الفرنسي لنظامه الذي يواجه احتجاجات سياسية واجتماعية واسعة في الآونة الأخيرة.

أيضاً هناك عقبة أخرى في وجه ماكرون لن يتمكن من معالجتها في قمة دول الساحل الخمس في باماكو، وتتعلق بالجزائر التي ترفض منذ سنوات دعم التواجد العسكري الفرنسي في المنطقة، والتي يرى مراقبون أن عدم انخراطها في هذه القوة العسكرية الأفريقية المشتركة هو العقبة الأساسية أمام فرص نجاحها. ذلك أن الجزائر هي أكبر قوة عسكرية إقليمية في المنطقة ولها حدود شاسعة مع دول منطقة الساحل الصحراوية، كما أن العقول المدبّرة للجهاد المسلح في المنطقة، وعلى رأسهم مختار بلمختار، تتحدر في غالبيتها من الجزائر وتدور في فلك الجماعات الإسلامية المسلحة التي حاربها الجيش الجزائري منتصف التسعينيات ولجأت إلى منطقة الساحل لتنبعث من جديد. وبادر ماكرون إلى إجراء اتصال هاتفي الأسبوع الماضي بنظيره الجزائري عبد العزيز بوتفليقة من أجل "تقديم مقترحات ملموسة لإحياء اتفاق المصالحة الوطنية في مالي الذي ترعاه الجزائر"، بحسب بيان لقصر الإليزيه، أشار بالخصوص إلى التطرق لموضوع "نشر دوريات مختلطة في كيدال"، شمال مالي. لكن هذا المشروع يبدو صعب المنال على الأقل في الوقت الراهن.

وفي ظل هذه المعطيات المتشابكة، فإن ماكرون على الرغم من "لباقته" الدبلوماسية الفتية وواقعيته السياسية، يواجه مهمة محفوفة بالتعقيدات والمخاطر، لوضع استراتيجية تضمن الأمن في منطقة الساحل من دون أخذ دور دول المنطقة في هذه المهمة ومواصلة لعب دور الشرطي، وهو الدور الذي لطالما أدته فرنسا في المنطقة لحماية مصالحها الأمنية والاقتصادية.