لم تعرف حكومة يوسف الشاهد في تونس استقراراً واضحاً منذ تعيينها، إذ عصفت الرياح بأكثر من وزير في فترات مختلفة، ولأسباب مختلفة، منها ما يتعلق بأداء الوزراء أنفسهم وطريقة تسييرهم للمواقع، ومنها ما تم لأسباب سياسية مباشرة على مستوى العلاقات مع المنظمات الكبرى في البلاد أو الأحزاب. ويبدو أن نفس هذه الأسباب تقف وراء التعديل الوزاري الجديد الذي تتفق كل التسريبات على أنه لن يتأخر كثيراً. وكانت "العربي الجديد" أكدت، منذ نحو شهرين، أنه قد يتم في يوليو/تموز المقبل، بعد أن يتجاوز الشاهد موجة الامتحانات والاضطرابات الاجتماعية التي ارتفع منسوبها بشكل كبير.
وتتوفر جملة من العوامل الموضوعية التي تمكن الشاهد من تعديل حكومته بالشكل الذي يراه مناسباً لإتمام فترة ولايته، وهو طموح كان يبدو أنه صعب التحقيق منذ فترة، إذ كانت مصادر متعددة تؤكد أن الشاهد لن يكمل بضعة أشهر على رأس الحكومة، وسيتم تغييره، لكنه قلب الطاولة على الجميع وفرض نفسه على المنافسين، خصوصاً على الأصدقاء المقربين، الذين وجهوا له كل أنواع السهام المسمومة. وبعيد إقالة وزير التربية، ناجي جلّول، ووزيرة المالية، لمياء الزريبي، ومن قبلهما وزير الوظيفة العمومية، عبيد البريكي، وتولي وزراء بالنيابة مهمة هذه الحقائب، سقطت من قائمة الحكومة ثلاث شخصيات هامة. لكن الشاهد وجه رسالة للجميع مفادها أنه الربان الأهم على السفينة، وأن هناك حدوداً في معادلة الحكم التونسية لا ينبغي تجاوزها.
ومنذ تلك الفترة تغيرت بالفعل معطيات كثيرة في المشهد السياسي التونسي، أولها التقارب اللافت بين رئيس الحكومة وبين الأمين العام الجديد لاتحاد الشغل، نور الدين الطبوبي. وقد توطدت هذه العلاقة أكثر مع مرور الاختبارات: هدوء في التعليم، وتوقيع اتفاقيات زيادة أجور، وتراجع في الإضرابات في عديد القطاعات، وآخرها اعتصام الكامور جنوب تونس، الذي نجح الطبوبي في إخراجه من المأزق الذي وصلت إليه الحكومة والمعتصمين. ويبدو أن هذا العامل سيكون هاماً في تحديد شكل التعديل الجديد، إذ تشير بعض المصادر إلى أن الشاهد قد يفكر من جديد في تسليم بعض الحقائب إلى شخصيات قريبة من النقابات، خصوصاً إذا تغيرت المعادلة الحزبية الحكومية.
غير أن هذه المسألة شديدة الحساسية إذ تتعلق بعمود الاستقرار السياسي التونسي وخياراته الكبرى، وهي خيوط لا يحركها الشاهد لوحده، وإنما يتشارك فيها مع الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، الذي يديرها شخصياً بالتعاون مع حليفه رئيس حزب النهضة، راشد الغنوشي. ويتساءل كثيرون إذا ما كان حزب آفاق تونس سيبقى في الحكومة أم سيغادرها؟ ويجيب القيادي في الحزب، كريم الهلالي، في تصريح لإذاعة "موزاييك" منذ يومين، أن حزبه "لن ينسحب من حكومة الوحدة الوطنية، وسيواصل التزامه بوثيقة قرطاج، وأن قراراً مماثلاً يناقش في هياكل الحزب ومؤسساته ومجلسه الوطني لا بصفة ارتجالية وانفعالية"، موضحاً أن "الحزب انخرط في مشروع سياسي اقترحه رئيس الجمهورية". لكن مصادر في تونس تؤكد، لـ"العربي الجديد"، أن هذا الرأي ليس بالضرورة رأي بقية قياديّي "آفاق"، إذ كان بعضهم يراهن على رحيل الشاهد، فيما يعتبر آخرون أنه قد حان وقت الرحيل والتفكير في مشاريع سياسية جديدة. لكن بقاء "آفاق" في الحكومة من عدمه لا يقرره الحزب نفسه فقط، وإنما تعتقد قيادات بارزة في حزبي "النداء" و"النهضة" أن وجود "آفاق" في الحكومة أضرّ بها أكثر مما نفعها، وأن التحالف معه يصب فقط في مصلحة الحزب الذي يعمل للحساب الخاص فقط. ويبقى هذا الأمر رهين تغيير رأي السبسي، الذي لا يرغب في تقديم هدية جديدة للمعارضة التي تزيد قوتها يوماً بعد يوم، خصوصاً مع تآكل كتلة "النداء" في البرلمان لصالحها.
غير أن قيادات بارزة في حزبي "النهضة" و"النداء" تحدثت إليهم "العربي الجديد" خرجوا عن همسهم الذي يدوم منذ فترة، وبدؤوا يتشبثون أكثر بالرأي الذي يقول إن "النهضة" و"النداء" قادران على الحكم بمفرديهما، برغم أن السبسي ليس مقتنعاً كثيراً بهذه المسألة، خصوصاً مع نجاح وزراء من خارجها، مثل وزير الفلاحة، سمير الطيب (عن حزب المسار اليساري)، ومبروك كورشيد (القومي). ويبقى التساؤل بخصوص مهدي بن غربية وإياد الدهماني. لكن يبدو أن الشاهد أكد تثبيت الأول على الأقل، حين خرج الدهماني متحدثاً باسم رئيس الحكومة ليؤكد أن اتهامات الفساد ضد بن غربية لا إثبات فيها، وأنه يتابع الملف شخصياً، فيما يبقى مصير الدهماني نفسه معلقاً بالإبقاء على الحزب الجمهوري داخل الحكومة أم لا، وإن كان الجميع يعرف مدى قربه من الشاهد.
لكن الشاهد يعرف أنه يلعب في هذا التعديل بأوراق هامة ومحددة لبقية ولايته، ولما بعدها، وهو مطالب أساساً بتهدئة الأوضاع مع حزبه نداء تونس. ويؤكد القيادي في الحزب، خالد شوكات، أنه "ثمة حقيقة سياسية لا يمكن لأي كان، مهما كان موقعه، تجاهلها، وهي أن حركة نداء تونس هي الحزب الفائز في انتخابات 2014، وأنه من دون قبولها ورضا كتلتها النيابية لا يمكن تمرير أي تحوير أو قرار". ويضيف، في تصريح لموقع "الصباح نيوز"، أن "رؤساء بعض الأحزاب، التي لا وزن شعبيا أو نيابيا لها، يستطيعون أن يستغلوا ثغرات النظام السياسي، فيمرون في غفلة من الناس إلى مراكز القرار مؤقتاً، كما يستطيعون استعراض العضلات الخاوية في البلاتوهات، لكنهم في نهاية الأمر لا يستطيعون، عندما يجدّ الجد، إفادة رئيس الحكومة بأي شيء حقيقي وملموس". ويوجه شوكات رسالة صريحة للشاهد بأن "أي تحوير وزاري لا يأخذ بعين الاعتبار مكانة حركة نداء تونس ودورها، ولا يضعها الموضع الذي يليق بها، لن يكون سوى مغامرة سياسية إضافية غير ذات جدوى"، مشيراً إلى أن "النداء سبق أن قدم التضحيات حتى تسير السفينة وما يزال مستعداً، غير أن الأمر الذي لن يقبل به مرة أخرى أن يكون في نظر مركز القرار مجرد ماكينة لتمرير القرارات والسياسات التي لم يساهم في وضعها بما يتفق مع حجمه"، متسائلاً "ما نحب معرفته الآن هو بماذا ستنصح بطانة السوء التي راهنت على ضرب علاقة رئيس الحكومة بحزبه، وما هي خططها وتصوراتها للكيفية التي يمكن أن يمرر بها تحوير وزاري، خصوصاً إذا لم يعتمدوا على مكانة رئيس الجمهورية؟". ويعلق مصدر حزبي، رفض الكشف عن اسمه لـ"العربي الجديد"، بأن "هذه القوة التي يتحدث بها شوكات ليست مجرد رأي شخصي، وأنها مستمدة من لقاء قيادات في الحزب منذ أيام بالسبسي في قصر قرطاج". كل هذه الإكراهات الحزبية والسياسية، تضاف إليها حرب الشاهد على الفساد التي ستثير ضده منطقياً كل المستفيدين، زائد حسابات توازن التشكيل الحكومي، وقدرة الوزراء الجدد على أداء دور حقيقي في تطوير العمل الحكومي في عدة وزارات متعثرة، والبحث عن حكومة متضامنة بإمكانها الصمود أمام كل المآزق والاختبارات المقبلة التي تعج بالمطبات، كلُّها عوامل تتطلب حل معادلات رياضية معقدة، هل يتمكن الشاهد منها؟