على الرغم من أن الحملة على الفساد التي أطلقها رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد، لا تزال في بدايتها ولا يعلم أحد مآلاتها، إلا أنها أحدثت نوعاً من الارتباك في المشهد السياسي، وقدّمت إشارات مهمة إلى تحوّلات عميقة قد تطرأ عليه. أول ارتدادات هذا التحوّل شهدها حزب الشاهد نفسه، "نداء تونس"، الذي تقاذفته الاتهامات من كل جانب، خصوصاً أن أشهر الموقوفين في الحملة، شفيق جرّاية، هو أحد ناشطي هذا الحزب ومموّليه، وذكر ذلك مرات عديدة في تصريحات مختلفة، بل وصل الأمر بمنتقديه إلى اعتباره واحداً من أهم المؤثرين في مسيرة الحزب. ومع إيقافه، انطلقت الاتهامات للحزب من كل مكان، وطاولت قيادات ونواباً من "النداء"، في حملة يتضح جلياً أن أهدافها سياسية.
وبدا ردّ الحزب وتفاعله مع الحملة التي أطلقها الشاهد، بارداً، عكس بقية الأحزاب، وربما كان مفهوماً بحكم وجود مدير الحزب، حافظ قائد السبسي، ورئيس الكتلة النيابية، سفيان طوبال، في الصين. ومع عودة السبسي التي تأخرت مرتين، وفق ما ذكره مقربون من الحزب لـ"العربي الجديد"، عُقد على وجه السرعة، مساء الأحد الماضي، اجتماع ضم قيادات الحزب ونوابه وحتى بعض أعضاء الحكومة من قياداته، لبحث وضع الحزب ومحاولة رأب الصدع الحاصل بسبب هذه الاتهامات.
ويحيل هذا التصريح لبن محمود إلى ما تنسبه بعض الاستنتاجات إلى سعي بعض الأطراف لتكوين قاعدة داعمة جديدة للشاهد قد تقوم على أنقاض كتلة "نداء تونس"، وتشكّل الكتلة الجديدة "الوطنية" أساساً لها. وتضم "الكتلة الوطنية" نواباً من "نداء تونس"، كانوا استقالوا من الحزب سابقاً، وهم من مؤسسيه وقيادته الأولى التي شاركت بحماس وكثافة في مرحلة تأسيسه ومنافسة الترويكا، ولكنها لم تنضم إلى كتلة "مشروع تونس" التي جمعت أغلب المستقلين من "النداء". وأعلنت الكتلة منذ يومها الأول أنها داعمة للشاهد وللرئيس الباجي قائد السبسي، وبدا تمايزها هذا عن "النداء" بمثابة الإعلان عن وجود مسعى سياسي جديد في المشهد التونسي.
ومع المعطيات المعروفة سابقاً من وجود نوع من الجفاء بين حافظ قائد السبسي والشاهد، خصوصاً بعد أزمة التسريبات الصوتية، ومع اعتبار أن الشاهد في الأصل ليس ابن "النداء" ولا من مؤسسيه، وهو وافد عليه من الحزب "الجمهوري"، ذهبت بعض التكهنات إلى اعتبار أن الشاهد يبحث عن دعم سياسي جديد عبر هذه الكتلة، خصوصاً أن كثيرين يعتبرون أن "نداء تونس" وصل إلى مداه ولم يعد بإمكانه تقديم شيء للشاهد الذي يبحث عن سمات سياسية جديدة تدعمه، على الرغم من تناقض هذا الأمر مع حصول "النداء" على المرتبة الأولى في كل استطلاعات التصويت.
وأياً يكن من هذا الأمر وهذه الحسابات السياسية التي ستتوضح مع الأيام، فإن الشاهد نجح على الأقل في أن يقفز من حملة الانتقادات التي طاولته بسبب ملف الاحتجاجات التي شهدتها البلاد، إلى صدارة الأحداث، وربما تمكّن أيضاً من الشروع في إقصاء أبرز منافسيه من السباق الانتخابي، إذا أراد الترشح لانتخابات 2019. ولكن هذا الموعد لا يزال بعيداً ويلزمه عمل تأسيسي كبير، ربما تكون هذه الشعبية التي تزايدت في يوم واحد بـ14 نقطة، وفق استطلاعات الرأي، أولى خطواتها، ولكنها تستدعي تأكيدها والبناء عليها وترجمتها إلى إجراءات ملموسة تصل إلى الشباب المحتج، وتغيّر يأسه إلى أمل، وتبني في المناطق، وتحوّل منسوب الاحتجاج إلى فرص عمل، وهي مسافة لا تزال طويلة.