تونس: هل تنجح "النهضة" في السيطرة على خلافاتها؟

03 أكتوبر 2017
الغنوشي أثناء المؤتمر العاشر لـ"النهضة"، مايو 2016(فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
على الرغم من أن الخلافات داخل حركة النهضة ليست جديدة ولم تعد خافية على أحد، إلا أنها تشهد في الآونة الأخيرة تصاعداً واضحاً بسبب تباين وجهات النظر إزاء ملفات متواترة شهدتها الساحة الوطنية في تونس، وآخرها قانون المصالحة الإدارية.

وأظهر التصويت على هذا القانون في البرلمان التونسي تبايناً داخل الكتلة النيابية لـ"النهضة"، إذ عارضه صراحةً 5 نوّاب من بينهم الوزير السابق، نذير بن عمّو، الذي أعلن استقالته من الكتلة إثر المصادقة عليه، إضافةً إلى احتفاظ نائب بصوته وغياب حوالي 30 نائباً عن جلسة التصويت. وهذا ما بدا أنه خروج عن الصف وإعلان واضح عن وجود خط ثانٍ داخل الحركة لا ينسجم مع خياراتها الكبرى. وذهب مراقبون إلى اعتبار ذلك بمثابة ولادة تيار معارض لرئيس الحركة، راشد الغنوشي، يعلن عن نفسه بوضوح، بعدما كان مجرد آراء ومواقف مختلفة لشخصيات اعتبارية داخل الحركة تتباين مع بعض القرارات من حين إلى آخر.

غير أن السمة البارزة لهذه الشخصيات ومواقفها المعلنة، تظهر أن خط سيرها هو نفسه منذ المؤتمر العاشر لـ"النهضة"، عام 2016، بل منذ انتخابات الرئاسة عام 2014، عندما تضاربت أصوات قادة "النهضة" بين دعم المرشحين الباجي قائد السبسي أو المنصف المرزوقي، وتشتت أصوات قواعدها. هكذا، تطورت حالة المعارضة داخل الحركة ونمَت مع الاختبارات المتتالية لتتوضح أكثر فأكثر مع الوقت.

ومن بين الأصوات المعارضة، يبرز وزير الصحة الأسبق، النائب عبد اللطيف المكي، الذي يبدو وكأنه يقود هذا التيار على عكس أصوات أخرى تكتم معارضتها وتفضل الصمت. ويبدو المكي، الذي يعتبر من قيادات الداخل التي لم تهاجر خلال حقبة القمع والمحنة قبل ثورة عام 2011، حريصاً على تحقيق معادلة دقيقة، تقوم على إبراز الاختلافات داخل الحركة، خصوصاً مع رئيسها وأسلوب إدارته وخياراته الاستراتيجية. لكنه يصرّ في كل مرة على تماسكها وعدم القيام بانشقاقات فيها. ويشير المكي في تصريحات صحافية متتالية، إلى وجود ضغوط مسلّطة على الكتلة بسبب الملفات الشائكة، نافياً وجود انقسامات داخل الحركة. في المقابل يؤكد أن "الحركة تتمتّع بأفضل ديمقراطية حزبية، ولكنها لم تعد كافية لحركة النهضة كحزب طلائعي، واليوم الذي سيتغيّر فيه هذا النظام سيأتي، المسألة مسألة وقت لا أكثر ولا أقل"، بحسب تعبيره. ويضيف "نحن لا نقول إنّه لا توجد ديمقراطية، وإنّما لم تعد كافية ولا بد من تطويرها، نحن لا نناقش شرعية الرئيس إنّما نحاول ألا يقتل النظام الرئاسي التنوّع في الحركة''، على حد قوله.


ولا يخفي المكي رأيه بأن "الاختلاف هو حول طريقة القيادة بأسلوب الرئاسة وأن يكون القرار بيد شخص الرئيس فقط"، مبيناً أن الذي يتخذ القرار في النهاية هو رئيس الحركة وأن النظام الرئاسي في حركة النهضة يجعل راشد الغنوشي متفرداً بالقرار مشدداً على أن دوره كشيخ وكمؤسس للحركة يزيد "من حدّة هذا النظام الرئاسي"، وفق وصفه.

وفي ما يتعلق بقانون المصالحة، يبيّن المكي أنه دعا إلى التصويت بورقة بيضاء تعبيراً عن رفض قرار رئيس الحركة بالمصادقة على هذا القانون، على الرغم من أنه كان بالإمكان عدم الاستعجال في التصويت عليه في صيغته الحالية والالتزام بما تم الاتفاق عليه أثناء الجلسات بين المكتب التنفيذي والكتلة النيابية بخصوص ضرورة تحسينه قبل المصادقة عليه. ويصف في تصريح لإذاعة "موزاييك"، حصيلة سنتين ونصف السنة من التوافق بـ''المضطربة'' لكثرة التغيّرات الحكومية والتركيز على الجوانب السياسية.

وتظهر مواقف المكي أن الخلافات ليست بسيطة وأنها تتعلق بخيارات استراتيجية لحركة النهضة، مثل التحالف السياسي، والائتلاف الحكومي، وقانون المصالحة، وإدارة الحركة، ووضعية رئيسها. وتلتقي معه قيادات أخرى، مثل وزير الفلاحة الأسبق، محمد بن سالم، والقيادي عبد الحميد الجلاصي، وآخرون يعارضون أحياناً ويلجأون إلى الصمت أحياناً أخرى، ولكن قانون المصالحة وسّع من دائرة المعارضين ووصل إلى الكتلة النيابية.

ويعترف المستشار السياسي لرئيس حركة النهضة، لطفي زيتون، في حوار إذاعي، بأن الخلاف هو في صلب حركة النهضة وموجود منذ المؤتمر العاشر، مشيراً إلى وجود نوع آخر من الخلاف حول طريقة تسيير الحركة. ويفيد بأن البعض يريد أن تصبح طريقة التسيير جماعية أو كالأحزاب الأخرى، أي أن يعمل رئيس الحركة وبرفقته مؤسسات تراقبه وتقدم له المساندة.

وينبّه زيتون إلى قضية مهمة في هذا الصدد. فيقول إن "حركة النهضة تقوم برحلة من اليمين إلى الوسط وهناك بعض الاختلاف حول سرعة الرحلة ونوع الرحلة نفسها" بحسب تعبيره. ويبين أن "الحركة تتجه نحو الوسط لأن البلاد في حاجة لذلك، وتسيير الدولة يتطلب ذلك أيضاً، ويجب الاتجاه نحو الوسط"، وفق تأكيده. وبكلامه هذا يشير إلى قضية على درجة كبيرة من الأهمية، تتعلق بتناقضات الأحزاب السياسية عموماً في تونس وبخط سيرها وتعديله بسبب ما يفرضه عليها أحياناً الواقع السياسي وتحولاته. والخلافات داخل "الجبهة الشعبية اليسارية" أو في حزب "آفاق" الليبيرالي، أو "الجمهوري الاجتماعي التقدمي"، أو "الوطني الحر"، كلُّها تتأثر بأسلوب إدارتها وبعلاقتها بالحكم، وبمواقفها من القضايا الكبرى، وكلُّها تشهد تصدعات مع كل قضية تطرح على المشهد الوطني.

لكن "الرحلة من اليمين إلى الوسط" التي يشير إليها زيتون، تعكس ثمن التحول بسرعة كبيرة من حركة دينية سرية إلى حزب يشارك في الحكم، واصطدم بواقع مجتمع حداثي يتغيّر ويتطور بسرعة كبيرة هو أيضاً. ويبدو أن فصل الدعوي عن السياسي لم يتم هضمه بالشكل اللازم بعد، وأنه سيترك آثاره بالضرورة على الحركة. ولذلك ثمة أسئلة مهمة مطروحة على حركة النهضة بالنظر إلى هذه الخلافات. فهل تستطيع هضمها والمحافظة على تماسكها الذي يمثل حبل نجاتها من عواصف الداخل والخارج وفي فترة دقيقة من تاريخها؟ وهل تذهب إلى الاستحقاقات المقبلة موحدة أم أن خياراتها في الانتخابات المحلية مثلاً ستزيد من خلافاتها؟ وهل تدار هذه الخلافات داخل مؤسساتها وتبقى كذلك إلى حين ابتكار اُسلوب إدارة يسيطر عليها ويصل بها إلى المؤتمر المقبل، أم أن الاستحقاقين التشريعي والرئاسي المقبلين في عام 2019 سيعمقان من هذه الخلافات؟

لا شك أن معارضي الغنوشي يطرحون خلافاتهم مع إدراكهم المسبق لكل هذه الأسئلة والقضايا. وهم يدركون حساسيتها ويستعدون بشكل مبكّر لطرح سؤال ما بعد الغنوشي، كما تستعد أوساط حزب "نداء تونس" لمرحلة ما بعد السبسي. لكن الخلافات داخل "النهضة" ليست سياسية وحزبية ومتعلقة بالحكم فقط، وإنما هي خلافات حول الأساليب والخيارات وما تعلق بها من أسئلة ما بعد الثورة وقضية التعامل مع إرثها الثقيل، بما يجعل منها أيضاً قضايا فكرية وخيارات جوهرية.