المناوشات الإيرانية الأميركية بمياه الخليج: صراع نفوذ وأمن قومي

27 اغسطس 2016
ترى واشنطن أن القوارب الإيرانية تتعمد الاستفزاز(محمد الشيخ/فرانس برس)
+ الخط -
عادت التجاذبات بين طهران وواشنطن في منطقة المياه الخليجية ومضيق هرمز إلى الواجهة من جديد، بعدما أكدت مصادر أميركية اقتراب أربعة زوارق حربية إيرانية من سفينة أميركية يوم الأربعاء الماضي. وأعلنت المصادر أن السفينة الأميركية أطلقت ثلاث طلقات تحذيرية بعد اقتراب زورق تابع للقوات البحرية في الحرس الثوري الإيراني منها، وتطويقه لها شمال مياه الخليج. وذكرت أن القارب الإيراني رفض المغادرة على الرغم من التحذيرات، التي انطلقت عبر مكالمة لاسلكية قصيرة. ووصف المتحدث باسم البيت الأبيض، جوش إرنست، النوايا الإيرانية بغير الواضحة. أما طهران فاكتفت بالإعلان، على لسان وزير الدفاع، حسين دهقان، أن كل حاملة أميركية تقترب من المياه الإيرانية ستتلقى إنذاراً. ونقلت وكالة "إيسنا" عن دهقان تأكيده أن قوات بلاده سترد فوراً على "أية محاولة لتجاوز الحدود". واعتبر أن حفظ أمن تلك المناطق، التي تتحرك فيها ناقلات أجنبية، يشكل مهمة تقع على عاتق القوات البحرية الإيرانية، التي لن تتوانى عن اتخاذ أي رد فعل بحال الاقتراب من البلاد.

رسالة إيرانية ضمنية
وفي نفس السياق، قال مسؤول عسكري إيراني، لم تذكر المواقع الرسمية، التي نقلت تصريحاته، هويته، إن زوارق بلاده الحربية لم تقترب ولم تتدخل بمسار السفينة الأميركية، مضيفاً أن لهذه الزوارق الحق في التحرك في تلك المناطق كما تشاء وبالسرعة التي تريد، حسب تعبيره. وأضاف أن السفينة الأميركية "هي التي حضرت إلى المنطقة ولم يطلب أحد منها التواجد عسكرياً هناك". وقد تلخص هذه الجملة بالذات ما ترنو إيران إلى إيصاله في رسائل ضمنية للطرف الأميركي والخليجي على حدودها الجنوبية.
وعلى الرغم من التقارب مع الغرب، والتفاوض مع واشنطن، والتوصل إلى اتفاق نووي ألغى الحظر الاقتصادي، إلا أن خلط بعض الأوراق غير ممكن بالنسبة لإيران. وأولها ما يتعلق بتواجد قواتها في منطقة المياه الخليجية ومضيق هرمز لرصد حركة الحاملات الأميركية والأجنبية القريبة منها كثيراً.

وما حدث أخيراً ليس سوى واقعة تتكرر بين الطرفين الإيراني والأميركي، بغض النظر عمن يتحمل مسؤوليتها. وقد بثت واشنطن صوراً في شهر يناير/كانون الثاني الماضي (التقطت في 26 ديسمبر/كانون الأول 2015)، تظهر إطلاق صواريخ إيرانية بالقرب من سفن حربية غربية في ذات المنطقة، إحداها حاملة طائرات "هاري إس ترومان" الأميركية. ووصفت الإدارة الأميركية ما جرى بالاستفزازي. وذكرت وسائل إعلام أميركية أنه تم إطلاق هذه الصواريخ في ممر بحري دولي خلال مناورات للحرس الثوري. لكن طهران نفت هذا الأمر وصنّفته كجزء من حرب نفسية تشن ضدها دائماً.


وفي أواخر يناير/كانون الثاني، دانت واشنطن تحليق طائرة من دون طيار إيرانية فوق حاملة طائرات أميركية. صحيح أنها أكدت أن تلك الطائرة لم تكن مسلحة، ولم تشكل أي تهديد لعمليات الحاملة، لكنها اعتبرت التحرك غير مهني. في المقابل، أكد التلفزيون المحلي الإيراني أن مناورات ناجحة جرت في تلك المنطقة، وتم التقاط صور دقيقة لسطح الحاملة الأميركية خلالها، وهو ما وصفته البحرية الإيرانية بالخطوة الشجاعة. وفي شهر أبريل/نيسان 2015، احتجزت إيران سفينة تجارية تابعة لشركة "ميرسك"، التي تحمل علم جزر المارشال (دولة مستقلة تقع في غرب المحيط الهادئ). وطلبت منها خمس سفن إيرانية التوجه إلى ميناء بندر عباس. لكن الرواية الأميركية فسرت الخطوة باعتبارها عملية احتجاز، مع أن إيران أكدت أن سبب احتجاز السفينة يعود إلى خلاف تجاري وبديون متراكمة بين هيئة الموانئ ومالك السفينة. وفي عام 2003، احتجزت طهران زورقين عسكريين أيضاً كان على متنهما أربعة أميركيين وكويتيان اثنان، اعتقلهم الحرس لأربعة أيام بسبب تجاوز الحدود.

لكن الاحتكاك الأبرز خلال الفترة الأخيرة، حصل حين احتجزت قوات البحرية الإيرانية عشرة أميركيين كانوا على متن سفينة دخلت المياه الإقليمية لإيران مطلع العام الجاري. وأفرج الحرس الثوري عن هؤلاء بعد التحقيقات معهم، والتي خلصت إلى أن الزورقين دخلا المياه الإيرانية بشكل غير متعمد، مرجحةً أن يكون السبب عطلاً فنيّاً. وحصل هذا الأمر بعدما قدم العسكريون الأميركيون اعتذاراً وتعهدوا بعدم تكرار ما حصل، بحسب المصادر الرسمية في طهران. ونشرت الأخيرة فيديوهات لهؤلاء العسكريين. هذه الخطوة أثارت حفيظة واشنطن، لكن طهران استخدمتها لتؤكد على جهوزية قوات الحرس الثوري الذي يفرض رقابة مشددة ويتواجد بكثافة في تلك المناطق. واعتبر البعض في الداخل، لا سيما المحسوبين على الفريق المحافظ، أن ما حدث يجب أن يكون درساً لأصحاب المواقف المتشددة في الولايات المتحدة، والذين يتحدثون عن ضرورة فرض عقوبات جديدة على إيران لمحاصرتها وإضعافها، على الرغم من الاتفاق النووي بينها وبين المجتمع الدولي في يوليو/تموز 2015.

وفي وقت يشيد فيه البعض بما حدث ولا يزال يحدث في منطقة المياه الخليجية ومضيق هرمز، إلا أن وسائل الإعلام والمواقع الإيرانية تتعامل بحذر مع أي خبر من هذا النوع، لا سيما أن الحرس الثوري هو من يشرف على تلك المناطق. وهو ما يجعل الحكومة المعتدلة تبتعد عن إصدار تصريحات حتى اتضاح تفاصيل ما يجري في مياه الخليج. وهذه الحكومة هي التي أنجزت الاتفاق النووي بعد مفاوضات ثنائية مكثفة مع الإدارة الأميركية. أما الحرس الثوري فيؤدي الدور الموازي ولا يخفي انتقاده العلني للتواجد العسكري الأميركي في تلك المناطق.

ويبدو أن ملف الأمن القومي هو الأكثر أهمية بالنسبة لإيران، التي توجه دائماً رسائل واضحة بعدم قبول تجاوز حدودها أو التساهل مع هذا الأمر. وهو ما يتفق عليه الجميع في البلاد. وهناك إجماع إيراني على إبقاء القوات البحرية وغيرها من القوات المنضوية تحت لواء الجيش أو الحرس الثوري، على جهوزيتها من خلال إجراء مناورات بين الحين والآخر، في مياه الخليج. لكن طهران تحرص في الوقت نفسه على عدم خسارة اتفاقها النووي، الذي أتاح فرصة ترميم العلاقات مع الغرب بشكل عام، في وقت ارتفع فيه منسوب التوتر بين إيران وجيرانها الخليجيين وأولهم السعودية. هكذا يتبين أن طهران لا ترى ضيراً من توزيع الأدوار، أو من قبول التفاوض في ملفات ورفضه بشكل قاطع في ملفات أخرى.