تداعيات "بريكسيت" و"تشيلكوت": هواجس من تراجع دور بريطانيا عالمياً

10 يوليو 2016
يعارض معظم البريطانيين التدخّل العسكري في الخارج (كريس راتكليف/Getty)
+ الخط -
إذا كان استفتاء 23 يونيو/ حزيران الماضي حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وما أفضى إليه من تصويت لصالح الخروج من الاتحاد، هو أهم تحد للسياسة الخارجية البريطانية، ومكانة المملكة المتحدة ودورها على الساحة الدولية، كما يقول عضو لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب البريطاني، مايك جيباس، فلا شكّ أن تقرير "تشيلكوت" بشأن حرب العراق، سيضاعف هذه التحديات، وفقاً لمدير برنامج شؤون الحكم في كلية لندن للاقتصاد، مستشار لجنة شؤون الحكم في مجلس العموم البريطاني، توني ترافيرس.

ويعتبر ترافيرس أنّ تقرير لجنة السير جون تشيلكوت لم يقتصر على التحقيق في ملابسات مشاركة المملكة المتحدة في غزو العراق عام 2003 فحسب، إنما هناك جانب مهم تطرق إلى الدروس التي يجب على الحكومات البريطانية الاستفادة منها مستقبلاً، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالتدخل العسكري في الخارج.

وزير الخارجية البريطاني، فيليب هاموند، أشار في تعقيبه على تقرير "تشيلكوت"، إلى أن الحكومة البريطانية الحالية استفادت من تجربة العراق، حتى قبل نشر تقرير لجنة التحقيق. والمثال على ذلك، وفقاً للوزير البريطاني، تأسيس مجلس الأمن القومي، والذي أنشأه رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون في عام 2010، لضمان تنسيق اتخاذ القرار في كافة أجهزة الحكومة ودوائرها، بما في ذلك الإدارات المسؤولة عن الأمن المحلي. ويضم المجلس رئيس أركان الدفاع، ورئيس لجنة الاستخبارات المشتركة، ورؤساء أجهزة الاستخبارات، وكبار المسؤولين ذوي الصلة، والمدّعي العام للدولة.

ويبدو أن تجربة مشاركة بريطانيا في غزو العراق إلى جانب الولايات المتحدة، بكل ما فيها من أخطاء، ومحاذير، ودروس، فصلها تقرير "تشيلكوت"، لم تخيّم ظلالها على طريقة عمل صنّاع القرار السياسي والأمني في بريطانيا فقط، بل إنها أثرت منذ سنوات على السياسات الأمنية في بريطانيا ككل. ويمكن ملاحظة ذلك بشكل مباشر في إحجام الحكومة البريطانية على التدخل بقوات برية في ليبيا أو سورية، حتى إن الحكومة البريطانية لم تتجرأ على المباشرة في توجيه ضربات جوية لقواعد وعناصر تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في العراق وسورية إلّا بعد تفويض محدود من مجلس النواب، كما يقول نائب مدير المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية (RUSI)، مالكولم تشالمرز.

وبالعودة إلى 29 أغسطس/ آب من عام 2013، رفض مجلس العموم طلب رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، مشاركة بريطانيا في الضربات الجوية ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد رداً على هجوم كيماوي على المدنيين في غوطة دمشق عام 2013، بفعل الضغط الشعبي، ومعارضة الرأي العام البريطاني لأي تورط في صراع آخر في الشرق الأوسط، وتشكُّك الجمهور والصحافة في فعالية العمل العسكري بعد سنوات من الحرب في أفغانستان والعراق، وبعد مشاهدة انزلاق ليبيا نحو الفوضى بعد سقوط العقيد معمّر القذافي.






وترى نائبة رئيس برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المعهد الملكي، "تشاتهام هاوس"، جين كيننمونت، أن "النقاش الذي جرى في البرلمان البريطاني، آنذاك، سيطرت عليه تجربة غزو العراق تماماً". وأكثر من ذلك، تؤكد كيننمونت، أن ظلال حرب العراق خيّمت على النقاش في بريطانيا منذ عام 2005، عندما عارضت أصوات مجرد التدخل الإنساني لوقف عمليات التطهير العرقي في دارفور.

وتعتبر كيننمونت أن "التخبط الذي حدث عند تبرير غزو العراق بداية بامتلاك الرئيس العراقي صدام حسين أسلحة للدمار الشامل، ثم التحول إلى تبرير الحرب بأهمية التخلص من نظام صدام حسين لصالح السلم والاستقرار في الشرق الأوسط والعالم، بعد الفشل بالعثور على أي أسلحة نووية أو كيماوية، زاد من التشكيك في جدوى التدخل العسكري، وحتى تلك التدخلات التي تطلق على أساس إنساني".

من جهته، يرى أستاذ التاريخ والسياسة الخارجية في "كينغز كوليدج" في لندن، جون بيو، أن تجربة حرب العراق شلّت بريطانيا عن التدخل في سورية، بل إن المملكة فقدت القدرة حتى على التحرك للتقليل من مستوى العنف هناك، أو حتى فتح ممرات إنسانية آمنة للاجئين، أو فرض المزيد من الضغوط الدبلوماسية على نظام الأسد. ويؤكد بيو أن النقاش العام في بريطانيا بشأن سورية وليبيا غالباً ما كان يعيد إلى الأذهان حرب العراق.

وتخشى الدوائر السياسية والأمنية، وحتى مراكز الأبحاث، أن يزداد رفض الرأي العام البريطاني لخيارات التدخل العسكري في الخارج، بعد تقرير لجنة "تشيلكوت"، ما يؤثر سلباً على دور المملكة المتحدة على الساحة الدولية، ويزيد من عزلتها، لا سيما أن نشر تقرير لجنة "تشيلكوت" تزامن مع استفتاء الشهر الماضي، والذي أفضى إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وخاطب كاميرون هذه المخاوف في ثنايا ردّه على تقرير لجنة "تشيلكوت"، معتبراً أنه "من الخطأ تماماً أن نستنتج أن جيشنا غير قادر على التدخل بنجاح في أنحاء العالم. علينا ألا نستنتج بأن التدخل سيكون عملاً خاطئاً دائماً. فهناك، من دون أدنى شك، أوقات يكون فيها التدخل مصيباً، مثلما فعل بلدنا، وبنجاح، في كوسوفو وسيراليون".

وبالتوافق مع موقف كاميرون، حذّر مدير مركز هنري جاكسون للأبحاث، آلان ميندوزا، من تراجع دور بريطانيا أكثر بعد تقرير "تشيلكوت"، وقال "هناك العديد من الدروس التي يمكن استخلاصها من الحرب على العراق، كما هو الحال في أي صراع، لكن أحد الدروس التي لا يجب الأخذ بها هي الاعتقاد أن التدخل العسكري خيار خاطئ لا يجب اتباعه". رؤية رئيس المركز، المعروف بميوله للمحافظين الجدد، تتفق مع تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء العمالي السابق، توني بلير، الرجل الذي قاد بريطانيا إلى الحرب، ودعا مراراً الدول الغربية لإرسال قوات برية إلى سورية.







أما الكاتب في صحيفة "تايمز" البريطانية، جوناثان باول، فقد كتب في مقال بعنوان "تقرير لجنة تشيلكوت لا يجب أن يجعلنا نخشى استخدام القوة"، أن "أهم درس يجب على البريطانيين تعلمه هو ألا يجعلهم ما ورد في التقرير خائفين من مبدأ استخدام القوة في حدّ ذاته، لأن أخطاء الحرب وما جرّته من عواقب وخيمة على بريطانيا، ستظل أقل من عواقب عدم التدخل". ويستشهد باول بعدم تدخل بريطانيا عسكرياً في المجازر التي وقعت نهاية القرن الماضي بين قبائل "الهوتو" و"التوتسي" في رواندا، وهو نفس ما حدث في البوسنة والهرسك، إذ لم تتدخل بريطانيا إلا في وقت متأخر، الأمر الذي أدى لمقتل أكثر من 100 ألف شخص ووقوع مجازر عدة.

العلاقة مع الولايات المتحدة
وعلى الرغم من أن تقرير "تشيلكوت" أكّد أن علاقة بريطانيا مع الولايات المتحدة لم تكن لتتضرر على المدى الطويل لو أنّ بلير لم يلتحق بالحرب، ذلك أن "علاقة البلدين أثبتت بما فيه الكفاية مع مرور الوقت أنها قوية وتتحمل خلافاً نزيهاً"، يرى بعضهم أن ما ورد في تقرير لجنة التحقيق حول العلاقة بين توني بلير والرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش الابن، قد يزيد نزعة شرائح واسعة من الرأي العام البريطاني لعدم التبعية للسياسة الأميركية، بالشكل الذي ظهر في فترة الإعداد لغزو العراق، إذ ظهر رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، توني بلير، تابعاً للرئيس الأميركي. وقد عبّر زعيم حزب العمال المعارض، جيرمي كوربين، عن هذه النزعة، عندما طالب في تعليق له على تقرير "تشيلكوت" بإقامة علاقة أكثر استقلالاً وعلنية مع الولايات المتحدة، بعدما أظهر التقرير أن بريطانيا انضمت إلى غزو العراق من دون أسس قانونية مرضية أو تخطيط مناسب.

كما أن كاميرون تلمّس مثل هذه النزعات، وهو ما دفعه خلال تعليقه على التقرير أمام مجلس العموم، إلى إطار جديد للعلاقة بين واشنطن ولندن، عندما قال، الأربعاء الماضي، "لا أعتقد أن الولايات المتحدة محقّة دائماً حيال كل شيء، لكنني أعتقد أن شراكتنا معها حيوية بالنسبة لأمننا القومي". وأضاف كاميرون "سيكون من الخطأ الاستنتاج بأنه ليس من واجبنا أن نقف إلى جانب حلفائنا الأميركيين عندما تكون مصالحنا الأمنية المشتركة معرّضة للخطر. ويجب ألا نخشى أبداً من الحديث بصراحة وأمانة، تماماً كما هو الحال دائماً بين الأصدقاء المقربين. وحيثما نرسل قوات بلدينا معاً، لا بدّ أن يكون هناك إطار هيكلي يتم من خلاله التعبير بشكل مناسب عن وجهات النظر ومعالجة الاختلافات. لكن تظل لدى بريطانيا وأميركا القيم الجوهرية المشتركة ذاتها، وتظل الحقيقة هي أنه ليس لبريطانيا حليف وصديق أكبر من أميركا في العالم، وأن شراكتنا تظل مهمة لأمننا وازدهارنا اليوم كما كانت دائماً".

رسائل خاطئة لروسيا
وأكثر ما تخشاه بريطانيا، بعد تصويت 52 في المائة من مواطنيها في استفتاء الشهر الماضي، لصالح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وبعد نشر تقرير لجنة "تشيلكوت"، هو تفسير خصومها، وتحديداً روسيا، ذلك على أساس أن مظاهر ضعف بدأت تنخر الهيبة البريطانية. فمن جهة، تخشى لندن أن تفهم موسكو أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيضعف العلاقات بين لندن والاتحاد، وبين واشنطن ولندن، أو أن ذلك سيؤدي فعلاً الى انفصال اسكتلندا عن المملكة. وهذا الأمر يعني تفتت الكيان البريطاني جغرافياً وديمغرافياً، أي تلاشي أي دور سياسي وعسكري لبريطانيا على الساحة الدولية، وتحديداً في الشرق الأوسط وشرق أوروبا.

كما تخشى لندن أن يبعث ميْل الرأي العام البريطاني إلى معارضة المشاركة العسكرية في الخارج، لا سيما بعد ما جاء في تقرير "تشيلكوت"، وبعد فشل تجارب أفغانستان والعراق، ومعارضة التدخل البري في ليبيا وسورية، رسائل خاطئة لموسكو، حول دور بريطانيا في حلف الشمال الأطلسي، وقدراتها على كبح جماح روسيا في شرق أوروبا. وربما تكون الخشية البريطانية هي الدافع وراء تأكيد وزير المشتريات الدفاعية البريطانية فيليب دون، أول من أمس الجمعة، أن قرار الناخبين البريطانيين تأييد الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء 23 يونيو/ حزيران، لا يغيّر التزام البلاد بأن تبقى شريكاً قوياً في حلف شمال الأطلسي، وأن "بريطانيا لن تتقوقع على نفسها". وتزامن ذلك، مع إعلان وزارة الدفاع البريطانية عن إرسال 500 جندي إلى إستونيا و150 آخرين إلى بولندا، في إطار جهود "الأطلسي"، في التصدي لخطر الاعتداءات الروسية، ودعماً من بريطانيا التي ترأس "مهمة رأس الحربة للرد السريع" للحلفاء في شرق أوروبا الذين يواجهون تهديدات من روسيا".

ولتصحيح أي سوء فهم لدى الروس أو غيرهم، وربما لطمأنة الأصدقاء حول استمرار دور بريطانيا في "الأطلسي"، سارع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، إلى التعبير عن ثقته في أن بريطانيا ستظلّ عضواً قوياً وملتزماً في التحالف العسكري الغربي. وهو ما أكده رئيس أركان القوات الجوية الأميركية الجنرال ديفيد غولدفين، يوم الجمعة، بقوله إنه لا يرى أي مؤشرات على أن بريطانيا تتراجع عن التزاماتها في "الأطلسي" أو عن علاقاتها الدفاعية القوية مع الولايات المتحدة بعدما وافقت في استفتاء على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وقال غولدفين للصحافيين، "لم أسمع أحداً يتكلم عن التراجع قيد أنملة. ومن السابق لأوانه التكهن بشأن تداعيات نتيجة الاستفتاء البريطاني على المدى البعيد".


المساهمون