انتخابات إيطاليا: مفاجأة "النجوم الخمس" تهدّد الأحزاب التقليدية

21 يونيو 2016
دشّن غريللو مسيرته بعبارة "اذهبوا إلى الجحيم"(جيوزيبي كاساتشي/فرانس برس)
+ الخط -
على عكس التوجّهات الأوروبية الأخيرة، التي سمحت للأجنحة اليمينية بالخروج من قوقعتها للهيمنة على القارة، في النمسا وفرنسا واسكندنافيا والبلقان وغيرها، وعلى وقع احتمالات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يوم الخميس المقبل، غيّرت الانتخابات البلدية الإيطالية مساراً يكاد يكون تاريخياً، عندما فازت "حركة النجوم الخمس" بعدد كبير من مدن وبلدات إيطاليا، بينها العاصمة روما، وعاصمة الـ"فيات" والحزب الشيوعي الإيطالي، تاريخياً، لتوجه ضربة قاسية لرئيس الحكومة، ماتيو رينتزي وحزبه الديمقراطي، ومجمل أطياف اليسار واليمين الكلاسيكيين.

كسرت حركة النجوم الخمس أعرافاً وتقاليد سياسية محددة، لا بل عبّدت طريقها أمام الانتخابات التشريعية المقررّة في عام 2018. والحركة تأسست في العام 2009، واتخذت اسمها من واقع تسلم 5 أشخاص قيادتها كرد فعل على الأحزاب الكلاسيكية، وهي تعتبر حركة لا حزباً تركّز في طروحاتها على نماذج "الديمقراطية المباشرة" بما لا يمكن تصنيفه لا يساراً بحتاً، ولا يميناً صرفاً.

لم يكن يتوقع ماتيو رينتزي، أن تُرسّخ الحركة انتصارها البرلماني في عام 2013، وتنتقل من كونها الحزب الثاني برلمانياً في حينه، إلى المرشح المفضّل للإيطاليين، في الانتخابات البرلمانية المقبلة. ففي الانتخابات البلدية التي جرت على دورتين، في 5 يونيو/حزيران الحالي و19 منه، نال "الحزب الديمقراطي" الحاكم (يسار وسط) بقيادة رينتزي 20.17 في المائة من الأصوات بلدياً، فيما نالت "حركة النجوم الخمس" 20.16 في المائة، و"فورزا إيطاليا" (يمين) بقيادة سيلفيو برلوسكوني 7.82 في المائة.

لم تعد الحركة التي أسسها الممثل الكوميدي، بيبي غريللو، في عام 2009، مجرّد "موجة شعبوية" تندثر آثارها سريعاً، بل انغمست أكثر في يوميات المواطنين الإيطاليين. وباتت تستند إلى دعم الأطراف البعيدة عن المدن أو حتى ضواحيها، بل حققت نصراً كبيراً في الوسط الإيطالي، باكتساح المحامية، فيرجينيا راجي، (37 عاماً) بلدية العاصمة الإيطالية روما، بـ67 في المائة من الأصوات، في ترجمة لمطالب سكان المدينة، الذين يئسوا من إمكانية تحقيق التغيير على يد الأحزاب التقليدية، من "فورزا إيطاليا"، إلى الحزب "الديمقراطي" الحاكم. تعاني روما من الديون الثقيلة التي بلغت أكثر من 12 مليار يورو والفساد المستشري ومشكلة السكن، وهو ما لم يعالجه أحد من رؤساء بلدياتها السابقين.




عدا روما، فإن الشمال الإيطالي، المعروف بنظرته "الفوقية" تجاه أهل الجنوب، شرّع الأبواب أمام ممثلة الحركة الأخرى، كيارا أبندينو (31 عاماً)، لتفوز برئاسة بلدية تورينو، بنسبة 54 في المائة من أصوات الناخبين. لفوز أبندينو نكهة مميزة، كونها أطاحت بييرو فاسينو، أبرز رجال رينتزي في معقله، وصاحب العلاقات الممتازة مع شركة "فيات" في المدينة الشمالية. وبدا أن أطيافاً من المعارضة اليمينية واليسارية، قررت "كسر" رينتزي من خلال دعوات صدرت عن أحزاب برلوسكوني و"رابطة الشمال" (يمين متطرف) للتصويت لفائدة عدد من مرشحي الحركة.

تخطت "حركة النجوم الخمس" الإطار الجغرافي المحدود، منتشرة في مختلف المناطق الإيطالية، بفعل أهدافها وهي: تقديم إعانة للدخل الشامل للفقراء، وفرض عقوبات أكثر صرامة على جرائم الموظفين والتهرب الضريبي، وإغلاق أو خصخصة كثير من الشركات ذات الملكية العامة، وخفض الضرائب على الأنشطة التجارية الصغيرة. بالتالي، تبدو الحركة حاملة مشروع يدمج شعارات تنتمي إلى أدبيات وبرامج يسارية ويمينية في آن واحد.

ومن شأن هذه "الثورة الانتخابية" أن تُدشّن مرحلة جديدة إيطالياً، تبدأ في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، حين يقترع الإيطاليون في استفتاء اقترحه رينتزي، لتحقيق إصلاحات دستورية واسعة النطاق، تتعلّق أكثريتها بصلاحية السلطات المحلية، وانعكاساتها الاقتصادية. مستقبل رينتزي بات متعلقاً بالتعديلات الدستورية، خصوصاً بعد إعلان تمسّكه بمنصبه الحكومي، وعدم الاستقالة، معللاً ذلك بأنه "سيقود إيطاليا لتحقيق الاستقرار عبر التصويت لصالح التعديلات الدستورية".

مع ذلك، فإن غريللو واثق من أن رينتزي لن ينجح في تمرير التعديلات، إذ أكد، يوم الإثنين، أنه "بعد الاستفتاء سيتم تشكيل حكومة جديدة". وهنا قرّر غريللو إرجاء تسمية من سيواجه رينتزي على رئاسة الحكومة، إلى نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، مشدّداً كعادته منذ تأسيس حركته أن "لا قادة في حركتنا". وهو ما سمح بتطوّر الحركة ونموّها سريعاً.

"أنا لا أريد الحواجز، لقد وضعوها من أجل حمايتكم أنتم، لأن الحواجز ترمز إلى إيطاليا اليوم، لست هنا بصدد سرد أقاويل، ولا رغبة لي في حصد أصوات، ولا حتى أي صوت، لقد سمعتم كثيراً من الأشياء، كل الأشياء بما فيها الخزعبلات، منذ عام 1860 (تاريخ توحيد إيطاليا على يد جيوزيبي غاريبالدي)، هم يقصون عليكم الهراء هنا في صقلية". واحدة من أبرع الخطب التي توجّه فيها غريللو إلى الإيطاليين في شبه جزيرة المافيا، مطلقاً حملة "اذهبوا إلى الجحيم" في وجه الفاسدين، إثر تراكم النفايات في الشوارع الإيطالية، وانتشار الرشى في تعهّدات البنى التحتية، والتوظيف العشوائي في الدوائر الرسمية، التي تُكلّف خزينة البلاد كثيراً.

في صقلية مثلاً، عمد رجال المافيا، يوم الخميس، إلى إشعال الحرائق في كثير من المناطق الخضراء في شبه الجزيرة، عبر ربط المشاعل بأذناب القطط وتوجيهها للغابات. وقد شكّكت السلطات في صقلية بتورط المافيا، على اعتبار أن هناك 23 ألف حارس للغابات "لم يروا شيئاً"، في رسالة ضمنية إلى كونهم متواطئين مع المافيا. مع العلم أن رقم 23 ألف هو رقم كبير نسبياً، إذ إن كندا التي تضمّ أكبر الغابات في العالم، تملك 4200 حارس للغابات فقط.

أمام غريللو وحزبه كثير من العمل، قد لا يكون الهمّ الأوروبي أولوية له حالياً، عكس بريطانيا مثلاً، لكنه يدرك أن المافيا ورينتزي وبرلوسكوني وتقليديي الأعمال والشركات الكبرى والدوائر الرسمية الضخمة، ليست خصماً سهلاً يُمكن كسره، بل يتطلّب الأمر كثيراً من الجهد، ومساراً تراكمياً طويلاً. يدرك غريللو أنه في عام 1992 قتلت المافيا القاضيين، جيوفاني فالكوني وباولو بورسيلينو، لتوسعهما في تحقيقات "الأيادي النظيفة" التي هدفت إلى تنظيف إيطاليا من الفساد والمافيا. وهو ما يجب على "حركة الخمس نجوم" وغريللو أخذه بعين الاعتبار في بلد اعتاد الاغتيال السياسي والمعنوي.

دلالات