تركيا وعصر اللجوء السوري... استثمار الأزمات في السياسة الخارجية

20 يونيو 2016
طفل سوري في مخيم تركي (Getty)
+ الخط -
لطالما فرضت الهجرة، واللجوء بوصفه جزءاً منها، نفسها ركناً أساسياً في السياسة الخارجية التركية، تحديداً منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية ومع بدء تكوين الدولة القومية التركية، وكان آخرها موجة اللاجئين السوريين. وقد تعرّضت تركيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، لموجات عدة من الهجرة، بدأت مع اتفاقية تبادل السكان بين تركيا واليونان، والتي أدت إلى ترحيل ما يقارب نحو مليون يوناني من أراضي الجمهورية الحديثة إلى اليونان، مقابل استقبال نصف مليون تركي من اليونان. تلت ذلك موجات عدة من هجرات الأتراك من بلغاريا، وكذلك مسلمي البلقان والقوقاز والعراقيين، والذين أقام معظمهم بشكل مؤقت قبل إعادة توطينهم في بلادهم مرة أخرى.

وكانت تركيا في الخمسينيات والستينيات مُصدّرة لهجرة العمال لأوروبا، واللاجئين السياسيين في الثمانينيات والتسعينيات، والذين تحوّلوا لاحقاً إلى حجر أساس في السياسة الخارجية التركية. كذلك حملت موجة اللجوء السورية الأخيرة معها أيضاً العديد من التحديات والمزايا غير المسبوقة للسياسة الخارجية التركية، خصوصاً أنها من أكبر موجات الهجرة الجماعية في التاريخ الحديث.

وتضمّ تركيا، بحسب الإحصاءات الرسمية، نحو مليونين و750 ألف لاجئ سوري، لا يقطن منهم في المخيمات سوى نحو 280 ألف لاجئ. وفضلاً عما شكّله اللاجئون السوريون من عبء اقتصادي بلغ نحو عشرة مليارات دولار، بحسب الحكومة التركية، إلا أن وجودهم كان له وقع كبير على السياسية الخارجية التركية على مختلف الأصعدة.

ورّط هذا العدد الكبير من اللاجئين السوريين أنقرة بالحرب السورية حتى النهاية، بل وأفقدها قدراتها على المناورة ودور الوسيط الذي كانت تلجأ إليه تاريخياً للوصول إلى مصالحها، مما جرّها إلى صدامات كبيرة مع إيران وروسيا وكذلك مع حلفائها التقليديين، وبالذات الأميركيين والأوروبيين، الذين رأوا أن حلّ القضية السورية يستوجب الإبقاء على النظام السوري، والذي لم يتوقف عن العمل على تغيير الديموغرافيا السكانية. وذلك بالتوازي مع حزب "الاتحاد الديمقراطي"، الجناح السوري لـ"العمال" الكردستاني، والذي تلقّى من الدعم الأميركي ما يكفي لتصديره على أنه الحلّ الأنجع لتحقيق انتصارات سريعة على تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).


بالتالي، وجدت تركيا نفسها في مواجهة تغيير كبير بالديموغرافيا السكانية على طول الحدود السورية، لصالح تخفيف الثقل السكاني للعرب والتركمان الذين لجأوا لتركيا، فخسرت أنقرة أحد أهم عوامل استقرار حدودها الجنوبية لصالح توسيع سيطرة الحزب الكردي المعادي لها تاريخياً، الممثل بجناح "الكردستاني"، بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر قيام شريط حدود ذي غالبية كردية، قادر على إغلاق بوابة تركيا الجنوبية، وقطع علاقتها مع العمق العربي في سورية وصولاً إلى الجزيرة العربية.

في مواجهة ذلك، اضطرت أنقرة للتركيز على قتال "الاتحاد الديمقراطي" والنظام السوري، جاعلة من مكافحة التنظيمات السلفية الجهادية من "داعش" و"جبهة النصرة" في ذيل أهدافها الاستراتيجية، مما جعلها مترددة في المساهمة الفاعلة في التحالف الدولي ضد "داعش"، ووتّر علاقتها مع كل من الأوروبيين والأميركيين، والذين يجدون في التنظيمات الاسلامية الخطر الأكبر على مصالحهم، على عكس رؤية أنقرة. لكن التوتر بين الجانبين خفّ في منتصف العام الماضي، عندما فتحت تركيا قاعدة إنجرليك للتحالف الدولي ضد "داعش"، بينما ركزت هي على قتال "الكردستاني" في جنوب وشرق تركيا.

وعلى المقلب الآخر، تمكنت الحكومة التركية من استثمار أزمة اللاجئين التي اندلعت العام الماضي، بنجاح كبير لخدمة أهدافها القريبة والبعيدة. وبعد عبور مئات الآلاف منهم إلى الأراضي الأوروبية عبر تركيا، بكل ما شكّلوه من أزمة أوروبية خانقة، تمكنت الدبلوماسية التركية بقيادة رئيس الوزراء السابق، أحمد داود أوغلو، من التوصل لاتفاق مع الاتحاد الأوروبي، ساهم، وللمرة الأولى، منذ نحو مائتي عام، في قلب توازن القوى بين الجانبين لصالح تركيا. أكثر من ذلك باتت أنقرة الطرف الذي يستطيع أن يفرض الشروط وينتزع المكاسب، بعد أن كانت الطرف الأضعف في جميع الاتفاقات مع أوروبا خلال القرنين الماضيين.

وعلى الرغم العقبات الكبيرة الذي تواجهه فقد تم في مارس/ آذار الماضي توقيع اتفاق تركي ـ أوروبي هو الأول من نوعه، مكّن أنقرة من إعادة تفعيل مسيرة انضمامها للاتحاد الأوروبي، بفتح فصل جديد مع وعود بفتح فصول أخرى، وكذلك الحصول على مساعدات بقيمة 6 مليارات يورو لصالح اللاجئين السوريين على أراضيها، ووعود بإلغاء تأشيرة الدخول لفضاء شينغن عن المواطنين الأتراك، وإعادة توطين اللاجئين السوريين في أوروبا بشكل شرعي، في مقابل استقبال تركيا الواصلين بشكل غير شرعي بعد 20 مارس/ آذار الماضي إلى الجزر اليونانية، وكذلك توثيق العلاقات مع ألمانيا، والدفع باتجاه ملاحقة عدد من المعارضين الأتراك المنتمين لأحزاب يسارية متطرفة، كان آخرها محاكمة عشرة من منتسبي الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني قبل أيام في ألمانيا، وتضييق الخناق على أنصار "الكردستاني" في مختلف المؤسسات الأوروبية.

كذلك بات لتركيا أفضلية إنسانية وقوة أخلاقية، قادرة على إسكات جميع خصومها التاريخيين في أوروبا، بمجرد الإشارة إلى حسن إدارتها واستقبالها هذا العدد الكبير من اللاجئين. كما أنه من الناحية الجيوستراتيجية، بات الأمن القومي التركي، خط الدفاع الأول عن الأمن الأوروبي، والذي لا يُمكن التخلي عنه بأي حال من الأحوال، لأن أي انهيار في الاقتصاد أو الأمن التركيين، سيؤدي بطبيعة الحال إلى تدفق ملايين من اللاجئين المحتجزين في الأراضي التركية.

ووسط هذا كله، وبعد خمس سنوات من تحوّل الثورة السورية إلى صراع مسلح، وُلد في تركيا أكثر من 160 ألف طفل سوري، وتمكن أكثر من مليوني سوري من بناء حياتهم في الأراضي التركية، وكذلك تحولت الجامعات التركية إلى المقصد الأول للطلاب السوريين، بكل ما يعنيه ذلك من امتلاك تركيا لجيش من السوريين الناطقين باللغة التركية، والذين ترتبط مصالحهم بشكل مباشر معها على المستوى الاقتصادي والثقافي. وبعيداً عن الصعوبات التي ستواجه الحكومة التركية في دمج اللاجئين السوريين في حال بقائهم، فإن أي تسوية للصراع في سورية، تتيح عودة هؤلاء اللاجئين، ستجعل من الشمال السوري عموماً، ومحافظتي حلب وإدلب خصوصاً، امتداداً طبيعياً للنفوذ التركي، وجزءاً لا يمكن فصله عن أنقرة. الأمر الذي لم يكن ليحلم بتحقيقه أي سياسي تركي، منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية في بدايات القرن الماضي.