شهادات عن رحلة التهجير القاسية من حلب

18 ديسمبر 2016
أمضى الأهالي يومهم في العراء أمس (يوسف كرواشان/فرانس برس)
+ الخط -
مع وصول دفعات من المهجرين من الأحياء المحاصرة في مدينة حلب إلى ريف المحافظة الشمالي، ومنها إلى محافظة إدلب، ينضمّ هؤلاء إلى موجات سابقة من المهجرين الذين انتقلوا من ريف دمشق، ومن محافظات أخرى إلى المحافظة الوحيدة الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية بشكل شبه كامل، فيما ينتظر آخرون دورهم بعد عرقلة المليشيات تنفيذ الاتفاق الذي تم التوصل إليه. هؤلاء، وبينهم عدد كبير من الأطفال،  اضطروا إلى إمضاء ليل الجمعة-السبت في الشوارع أو داخل المنازل المهجورة الفارغة من أي أثاث. افترشوا الأرض في ظلّ تدني الحرارة إلى ست درجات تحت الصفر، وفق ما أفادت وكالة "فرانس برس"، التي ذكرت أن "السكان يعانون من إرهاق وتعب شديدين عدا عن الجوع والعطش، ويقتات معظمهم على التمر ولا يجدون حتى مياهاً ملوثة للشرب". مع العلم أنه بحسب الأمم المتحدة، لا يزال نحو 40 ألف مدني عالقين في حلب، وما بين 1500 إلى خمسة آلاف مقاتل مع عائلاتهم. وكان عدد كبير من السكان قد توجّهوا، يوم الجمعة، إلى حي العامرية للخروج ضمن الحافلات، وعمد كثر إلى إحراق مقتنياتهم وإتلاف ما كان متوفراً في منازلهم من أغراض وطعام ومؤونة، باعتبار أنهم لن يعودوا، ليفاجأوا، إثر ذلك، بتعليق تنفيذ الاتفاق.

وقبل عرقلة تطبيق الاتفاق يوم الجمعة الماضي، انتقل الذين أتيح لهم مغادرة حلب إلى الريف الغربي لمحافظة حلب ومنها إلى الريف الشمالي، قبل أن يتوجّه معظمهم إلى محافظة إدلب.

وإذا ما تم استئناف عمليات الإخلاء، فإن عدد المغادرين قد يصل إلى 40 ألف شخص أو أكثر، وهو ما طرح مشكلة كبيرة أمام المسؤولين في محافظة إدلب، لناحية تأمين مساكن ومراكز إيواء للنازحين، فضلاً عن الخدمات والاحتياجات الضرورية الأخرى من طعام ومياه ووسائل تدفئة ومدارس وصحة وغيره. وذلك في ظلّ الإمكانات الضعيفة لمجلس محافظة إدلب، وفي ظل القصف شبه اليومي لمجمل مناطق المحافظة من جانب الطيران الروسي وطيران النظام.

ورحلة نزوح الأهالي دائماً تبدأ بالتجمّع في إحدى الساحات بحي السكري، أحد الأحياء القليلة المتبقية بيد مقاتلي المعارضة، بانتظار قدوم حافلات الإخلاء (الباصات الخضراء) للرحيل. وفي الأيام الأولى من عملية الإخلاء، كانت الأولوية للجرحى، ومن ثم عائلات المقاتلين، ثم بقية المدنيين، على أن يكون المقاتلون آخر الخارجين تحسباً لغدر قوات النظام، أو انقضاضها على المدنيين بعد خروج المقاتلين. وهو ما كاد يحصل بالفعل، في الأيام الأخيرة، بعد محاولة المليشيات الايرانية تعديل الاتفاق، ليشمل بلدتي كفريا والفوعا المواليتين بريف إدلب، وهو ما تمكنت من تحقيقه، ولو جزئياً. وعلى الرغم من خروج بعض المقاتلين برفقة الجرحى أو برفقة عائلاتهم، إلا أن العدد الأكبر منهم ما زال موجوداً في المدينة، حسبما ذكرت مصادر عدة في المعارضة، وخلافاً لما أفادت روسيا عن خروج 4500 مقاتل، وأن من بقي في المدينة هم الرافضون للخروج.



وبعد الصعود إلى الحافلات يحضر ضابط روسي لتفقد الموجودين في الحافلة وإحصاء عددهم، ثم تنطلق الحافلات باتجاه معبر الراموسة إلى أن تصل إلى منطقة الراشدين، وهي أول منطقة تقع تحت سيطرة المعارضة في الريف الغربي. وهناك يتم استقبال النازحين وتوجيههم إلى المكان المقصود برفقة سيارات إسعاف، وتكون الوجهة غالباً مناطق في الريف الشمالي. يستقرون هناك لبعض الوقت، ومن ثم يتجه معظمهم إلى محافظة إدلب، تحديداً إلى ريفها الشمالي، أو مركز المدينة، قبل أن يتم توزيعهم على مراكز إيواء مؤقتة، ريثما تتدبّر كل عائلة أو شخص أمورهم، فينتقل من لديه أقارب أو أصدقاء في المحافظة للإقامة عندهم، أو يستأجر منزلاً خاصاً به. ومن لا يملك الإمكانات المادية، قد يختار الإقامة في المخيمات التي أقيمت في المدينة والتي تقدم للمقيمين فيها جميع الاحتياجات، ولو أنها باتت مزدحمة كثيراً ولا تستطيع استقبال أيّ أعداد جديدة.

وبحسب إحصائية قدمها فريق العمل الموجود في "النقطة صفر" بحي الراشدين، لاستقبال النازحين وتوزيعهم على المناطق المجهزة، فقد جرى توزيع الواصلين على منطقة ساعد وقرية الهداية النموذجية وبلدة كفر يحمول وجمعيات خان العسل. كما تمّ إيواء بعضهم في روضتين وبناء من ثلاثة طوابق في بلدة الأتارب بريف حلب، وفي مدرسة الأتارب الشرقية والمسبح والجامع الكبير ودار الأيتام والمستوصف في المدينة.



في ريف إدلب، تم إيواء عشرات العائلات في بلدات سرمدا واطمة وسلقين وبيرة ارمناز ومعارة الاخوان ومدرسة ترمانين ودركوش وجسر الشغور، ومخيم إحياء التراث في الدانا وبلدات أخرى في ريف إدلب. وبدا المغادرون من حلب في حالة مأساوية، كضياء الدين محمد العبسي، الذي بدا متأثراً بشدة للحال الذي وصل إليها مع عائلته، قائلاً إنها "المرة الأولى التي يغادر فيها مدينته حلب".

أما الناشط الإعلامي، محمد حجار، فتحدث لـ"العربي الجديد" حول الصعوبات التي يواجهها النازحون، مشيرا إلى أن "المعضلة الأساسية هي أن التهجير حصل في فصل الشتاء في ظلّ البرد القارس، ولا توجد وسائل تدفئة كافية خاصة بالنسبة للأطفال وكبار السن". وأضاف أن "ما يزيد من الصعوبات عدم وجود تنسيق كاف بين الجهات التي تحاول تقديم المساعدة"، لافتاً إلى أنه "لم يشاهد سوى منظمة خيرية واحدة تدعى قوافل الخير تقدم مساعدات للنازحين".

واستطرد حجار بالقول إن "أغلب من يعرفهم ذهبوا إلى مخيم في قرية معارة إخوان بريف إدلب الشمالي، وآخرون اتجهوا إلى بلدة أورم الكبرى، أو إلى مدينة إدلب وريفها، ومن ليس لديه بيت يذهب إلى المخيمات". وحول الأشياء التي تمكن النازحون من اصطحابها معهم من بيوتهم في حلب، أوضح حجار أن "أغلب الناس لم يتمكنوا من إخراج سوى ملابسهم فقط"، منوّهاً إلى أن "ما تعرضت له القافلة السادسة من إذلال وقتل ونهب على يد قوات النظام والمليشيات، حين حاول أصحابها الخروج بسياراتهم الخاصة بدل الحافلات".

وحول الأوضاع في مراكز الاستقبال والمخيمات، قال حجار إن "الطعام مؤمن بشكل جيد، لكن المشكلة هي في التدفئة، إذ يمتنع المعنيون عن توفير وسائل تدفئة خشية حدوث حرائق، فيكون الاعتماد على التدفئة بالملابس الثقيلة والبطانيات"، مشيراً إلى أن "أغلب المهجرين في حالة قلق، لأن لديهم أقارب ما زالوا محاصرين في حلب".



من جهته، ذكر الناشط الإعلامي، محمد الظاهر، الذي يرافق المهجرين أن "محافظة إدلب التي تبلغ مساحتها نحو ستة آلاف كيلومتر مربّع، تستقبل نحو نصف مليون نازح، خصوصاً في مخيماتها الشمالية على الحدود التركية، من سلقين إلى باب الهوى وأطمة، التي يزيد عددها عن 200 مخيم، وقد بلغت طاقتها القصوى في الاستيعاب".

وأضاف الظاهر، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "بعض الجمعيات الخيرية بنت بيوتاً بسيطة على عجل، لاستيعاب موجات النازحين المتتالية، بينما يستضيف بعض الأهالي عائلات من النازحين". وأردف إن "الأوضاع الخدمية المتردية في المحافظة، هي ما دفع مجلسها المحلي أخيراً، إلى إصدار بيان يعلن فيه عجزه عن تأمين مأوى للنازحين الجدد، مطالباً بمساعدات دولية لاستيعاب النازحين. كما أن الوضع الأمني متدهور نتيجة القصف المتواصل لطائرات النظام والطائرات الروسية لمجمل مناطق إدلب، وهو ما دفع العائلات للنزوح من مدينة الى أخرى هرباً من القصف وصولاً إلى الحدود التركية". ولفت إلى أن "أغلب المنظمات الإنسانية العالمية أغلقت مقراتها في المحافظة، منذ أكثر من سبعة أشهر بسبب القصف، ويقتصر العمل حالياً على المنظمات المحلية التي تتلقّى المساعدات عبر معبر باب الهوى".

وقبل حلب، كانت آخر دفعات من المهجرين وصلت إلى إدلب من منطقتي التل وخان الشيح في ريف دمشق، بعد وصول نحو 2900 شخص من بلدة خان الشيح و2750 من مدينة التل، وقبلهما استقبلت مهجرين من قدسيا والهامة والزبداني ومضايا والمعضمية وداريا. وتوقع ناشطون أن تشمل سياسة التهجير هذه بقية مناطق سيطرة المعارضة في ريف دمشق.

وحظيت الدفعة الأولى من المهجرين إلى إدلب من منطقة داريا نحو 4500 مدني وعسكري، باستقبال حافل في المحافظة، تعبيراً عن التقدير الكبير لصمودهم في وجه قوات النظام، كما أكد المجلس المحلي السابق لمدينة داريا، الذي حل نفسه أخيراً، أنه تم تأمين السكن لجميع الأسر التي خرجت من داريا بفضل جهود عدد من المنظمات الإنسانية والمبادرات الفردية. غير أن الاستقبال المميز لأهالي داريا ومقاتليها لم تحظ به الدفعات التالية من المهجرين من ريف دمشق، على الرغم استقبالهم بشكل جيد من جانب الأهالي.