تبين لاحقاً أن هذه الاعتداءات غير المسبوقة التي تبناها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) كانت من فعل ثلاث مجموعات مكوّنة من تسعة أشخاص قدِموا من بلجيكا بالإضافة إلى صلاح عبد السلام الناجي الوحيد الذي يقبع حالياً في سجن فرنسي في انتظار محاكمته، والذي ما يزال دوره الحقيقي في هذه الاعتداءات ملفوفاً بالغموض. وبعد عام من التحقيقات التي ما تزال متواصلة حتى الساعة طفت فرضية أخرى إلى السطح ومفادها أن مجموعة مسلحة أخرى فشلت في الوصول في الوقت المناسب إلى فرنسا للمشاركة في تلك الاعتداءات التي كان يمكن أن تكون أكثر دموية وفظاعة. فقد تم اعتقال الجزائري عادل الحدادي والباكستاني محمد عصمان في مخيم للاجئين في النمسا واعترفا لاحقاً بأنهما كانا في مهمة انتحارية إلى باريس لكنهما اعتُقلا بسبب وثائقهما الشخصية المزورة. كما توصلت التحقيقات إلى أن العقل المدبر ليس عبد الحميد أباعود الذي قُتل لاحقاً في شقة بضاحية سان دوني، وإنما "أمير" من تنظيم "داعش" نظّم ونسق وموّل الاعتداءات من معقل التنظيم في الرقة السورية.
وبات المحققون الآن مقتنعين بأن هذه الاعتداءات في باريس وأيضاً في العاصمة البلجيكية بروكسل، كانت على قدر كبير من التنظيم واستندت إلى شبكة معقدة من الأشخاص ساهموا بدرجات متفاوتة في مساعدة المهاجمين وتوفير الدعم اللوجستي وشقق للاختباء والأسلحة والمتفجرات والسيارات.
إجراءات انتقامية
في الأسابيع التي تلت الاعتداءات، رفع هولاند شعار الوحدة الوطنية في مواجهة الإرهاب في خطاب ألقاه في قصر فرساي بحضور أعضاء البرلمان ومجلس الشيوخ، معلناً في الوقت نفسه عن مشروع قانون لسحب الجنسية عن الفرنسيين المتورطين في أعمال إرهابية. وهو المشروع الذي شغل الساحة السياسية الفرنسية لشهور عديدة وخلق انقساماً غير مسبوق في صفوف اليسار الفرنسي، وتمخض عن استقالة وزيرة العدل كريستيان توبيرا في يناير/كانون الثاني الماضي احتجاجاً على إصرار هولاند ورئيس الحكومة على تمريره بالقوة. وفي النهاية تراجع هولاند عن هذا المشروع ما شكّل ضربة قاصمة له في أوساط اليسار ولدى الرأي العام.
ورفع هولاند شعار الحرب الشاملة على تنظيم "داعش" وأعطى أوامره لسلاح الجو الفرنسي لتكثيف الغارات الجوية ضد معاقل التنظيم في سورية والعراق. وحاول حشد الدعم الدولي لشن حرب استئصالية فورية على معاقل التنظيم المتطرف، وزار كبرى العواصم الدولية من موسكو إلى واشنطن مروراً بلندن وبرلين. لكن جهود هولاند لم تفلح في خلق الجبهة الدولية المنشودة ضد الإرهاب واضطر للخضوع إلى الأمر الواقع بعد التدخّل العسكري الروسي في سورية الذي قلب الموازين والحسابات الدولية بما فيها الفرنسية. وبات واضحاً أن لا وزن كبيراً لفرنسا لا في سورية ولا في العراق، على الرغم من أنها الضحية الأولى لإرهاب تنظيم "داعش" واستراتيجية نقل الحرب إلى قلب العواصم الغربية.
ووضعت الحكومة الفرنسية خطة لمعالجة حالات التطرف في أوساط الشباب عبر خطة إعادة تأهيل شاملة. ومن بين أهم القرارات المتخذة في هذا المضمار، قرار فتح مراكز اعتقال خاصة بالجهاديين العائدين من مناطق القتال في سورية والعراق. كما وضعت الحكومة خطة لمحاربة "التطرف الإسلامي" في أماكن العمل ورصد المتطرفين الذين يعملون في مواقع حساسة مثل المطارات والموانئ والمواصلات العامة، وذهب عشرات الموظفين ضحية هذه الإجراءات وأحياناً تم طرد بعضهم لمجرد أنهم يؤدون الصلاة في أماكن العمل ومعهم نسخ من القرآن أو الكتب الدينية.
تخبّط سياسي وفشل أمني
منذ اعتداءات 13 نوفمبر صار موضوع الإرهاب نقطة تجاذب في الساحة السياسية بين الحكم الاشتراكي والمعارضة اليمينية. وباسم محاربة الإرهاب تم تمديد قانون الطوارئ ثلاث مرات وهو ما يزال ساري المفعول حتى نهاية العام الحالي. وارتكبت السلطات سلسلة من الانتهاكات في حق الأفراد تحت ذريعة محاربة الإرهاب والتطرف وأخضعت عشرات الأشخاص للإقامة الجبرية بمن فيهم العديد من الأبرياء، ثبت لاحقاً أن لا علاقة لهم بالإرهاب. وإذا كانت الحكومة الاشتراكية ذهبت بعيداً في إجراءاتها القمعية، فإن المعارضة اليمينية استغلت الفرصة لاتهام الحكومة الاشتراكية بالفشل في حماية الشعب من التهديدات الإرهابية مطالبة بإجراءات أكثر صرامة. وتحوّل هولاند إلى ضحية غير مباشرة للاعتداءات الإرهابية وانهارت شعبيته بقوة إلى أن وصلت إلى الحضيض أخيراً، إذ كشفت استطلاعات أن أربعة في المائة فقط من الفرنسيين يرغبون في ترشحه لولاية رئاسية ثانية. والواقع أن هولاند وجد نفسه في مواجهة التحدي الإرهابي الأكثر دموية وتعقيداً في تاريخ فرنسا، ولم يكن أي رئيس آخر سيفعل أكثر مما فعله هولاند، حسب ما يقول العديد من المراقبين الفرنسيين.
وعلى الرغم من حالة الطوارئ، تعرضت فرنسا لسلسلة من الاعتداءات الإرهابية نكأت جراح 13 نوفمبر وزادت من تعميقها وجعلت الفرنسيين يعيشون على وقع الرعب من اعتداءات جديدة. وكان أقوى هذه الاعتداءات ذلك الذي وقع في مدينة نيس في 14 يوليو/تموز الماضي، حين دهس مهاجر من أصل تونسي الحشود المحتفلة بالعيد الوطني بشاحنة نقل، ما أسفر عن مقتل 84 شخصاً وجرح العشرات.
المسلمون يدفعون الثمن
منذ اعتداءات الجمعة السوداء تعيش الجاليات العربية والمسلمة في فرنسا أوضاعاً بالغة الصعوبة. فغداة هذه الاعتداءات وُجهت أصابع اتهام إلى المسلمين مع إشارة البعض إلى أن كل منفذي الاعتداءات مسلمون، واعتبارهم ارتكبوها باسم الدفاع عن الإسلام والمسلمين. وتحوّل المسلمون إلى ضحية لهذه الاعتداءات، إذ ارتفعت وتيرة الاعتداءات على المساجد والأشخاص، على الرغم من أن العديد من الشخصيات والقيادات الإسلامية الفرنسية والأئمة كانوا سبّاقين لإدانة الإرهاب والتطرف، لكن الاعتداءات تصاعدت بقوة ضد الفرنسيين المسلمين وبشكل لافت ما زاد من تعميق الهوة بينهم وبين المجتمع الفرنسي. وبهذا تكون هذه الاعتداءات أدت إلى تأليب الفرنسيين ضد المسلمين وترسيخ عقدة الشعور بالذنب.
هكذا هي فرنسا بعد مرور عام على اعتداءات 13 نوفمبر: شعب يعيش على وقع الخوف اليومي من تكرار هجمات مشابهة، ونخبة سياسية يساراً ويميناً تتخبط في عجزها عن إيجاد رؤية استراتيجية لاستئصال جذور الإرهاب في الأراضي الفرنسية، وأيضاً جاليات عربية ومسلمة تعيش الخوف من الاعتداءات كقدر محتوم سيعود عليها بالمزيد من التهميش والعزلة في بيئة تحوّلت معادية للإسلام والمسلمين.